رغم مضي 13 عاما على رحيل الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، حين احتضنته تربة "الشام" حيث ووري الثرى، عن عمر ناهز "القرن"، بعيدا عن "دجلة الخير"، التي طالما ناجاها بشعره، رغم هذه السنين، وما كتب عنه بعد مماته، وفي حياته، إلا أن تجربة "ابن الفراتين" بقي فيها الكثير من القصص التي لم تسرد، والحكايا التي لم يكشف نقابها، بحسب رئيس "مركز الجواهري الثقافي"، في العاصمة التشيكية "براغ"، رواء الجصاني، ابن أخت الشاعر، وأحد المقربين واللصيقين ب"أبي فرات"، وهنا يستذكر الجصاني مقولة الأديب المصري الراحل طه حسين، حين قال ذات مناسبة "لقد أفحمني الأستاذ الجواهري بهذا البيان الساحر، الذي هو البقية الباقية من التراث الأدبي العربي الصحيح". 4 آلاف وثيقة! الجصاني كشف في حديثه إلى "الوطن"، عن "وجود 4 آلاف وثيقة لدى المركز، لم ترَ النور بعد، كتبها الشاعر بخط يده. من بينها مراسلات، وأخوانيات، ونثريات كتبها الجواهري بخط يده، تكشف عن تمكنه الكبير في تناول أمور كثيرة، بعيدا عن الشعر العمودي الذي عرف به". مضيفا "ننتظر تحويلها لتخرج تباعا، في إصدارات ترفد المكتبة الثقافية العربية". عشق براغ تبقى العاصمة التشيكية "براغ"، والتي عاش فيها الجواهري ما يربو عن الثلاثة عقود، واحدة من أكثر المحطات المؤثرة في تجربة الشاعر، وهو الذي عشق المدينة، فبات جزءا منها. وقد كتب فيها عددا من أهم قصائده، بحسب رأي عدد من النقاد، ومنها قصيدة "دجلة الخير"، العام 1962 والتي يقول في مستهلها: "حييت سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين" وكتب فيها كذلك قصيدة "أيها الأرق"، ورائعته "قلبي لكردستان"، العام 1963 التي جاء فيها: "قلبي لكردستان يهدى والفمُ ولقد يجود بأصغريه المعدمُ سلم على الجبل الأشم وأهله ولأنت أعرف عن بنيهِ من همُ" دعاءٌ للمدينة رواء الجصاني، يعتبر أن الجواهري، وفي قصيدة حوارية متميزة، كتبها العام 1968، أوجز محبته وعواطفه للعاصمة "براغ"، والتي "أطالت الشوط من عمره"، فدعا لها بطول العمر والخلود، وهي التي احتضنته سبعة أعوام متصلة (1961-1968)، بعد اغترابه إليها، ثم تلتها إقامة شبه دائمة، امتدت أكثر من 23 عاما، كان ينتقل منها "في كل يوم إلى عش على شجر"، بين القاهرة، وطنجة، والجزائر، وبودابست، وطاشقند، ووارسو، ودمشق، وعدن، وغيرها من مدن الدنيا. العراق في القلبِ إلا أنه وبالرغم مما وفرت "براغ"، أو "براها" كما هو مشاع بين أبناء تلك البلاد، بالرغم مما وفرته من استقرار وطمأنينة لأبي فرات، إلا أن أجواء الغربة بقيت تحيط به من كل الجهات. فهو "عز هنا"، ولكن في قلبه "ينز جرح الشريد"، وكم أرق، وسهر، وطال شوقه للعراق، كما يقول الجصاني، حيث "لم يغب طوال العقود الثلاثة ،الوطن وهمومه، ونضال جماهيره وقواه السياسية، عن الجواهري. إذ استمرت المواقف والصلات والعلاقات مع الشخصيات السياسية والثقافية العراقية الأبرز، التي لم تكن مهمتها في العاصمة التشيكية لتكتمل، إلا بالتواصل مع شاعر الوطن ورمزه". نصوص لم تنشر وحول ما إذا كان للجواهري أي قصائد لم تنشر حتى الآن، قال رئيس "مركز الجواهري"، إن "الشاعر نفسه كان يسأل دائما بمثل هذه الأسئلة، ويقال له: هل لك من جديد؟. وقد كان يجيب بهذه الخلاصة: "كل قديمي جديد". مشيرا إلى أن "ديوان الجواهري الكامل في بيروت، الصادر عام 2000، يعد من أوسع الطبعات، إلا أن هنالك قصائد لم يضمها هذا الديوان الكامل". يضاف إلى ذلك كتاب "ذكرياتي"، والذي كتبه الجواهري في حياته في جزءين، وقد توقفت تلك الذكريات عند العام 1968، مما دفع الجصاني لأن يقوم بكتابة مزيد من ذكريات الجواهري بنفسه، حيث واصل كتابة تلك المذكرات، من وحي ما لديه من وثائق، وخرج أول كتاب أسماه "أصداء وظلال السبعينات"، حيث أكمل فيه الجصاني ما توقف عنده الجواهري، مبينا أنه يعمل الآن على "توثيق ما تبقى من محطات في حياة الجواهري، الشعرية، والثقافية، والسياسية، حتى العام 1997". رفض للاختزال الاختزال الذي يمارسه البعض لتجربة الجواهري، والتي تمتد إلى 25 ألف بيت، أمر يرفضه الجصاني. وحين سألناه عن أن البعض يختزل تجربة الشاعر في قصيدته العينية الشهيرة، التي كتبها في سبط رسول الله محمد، الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، "فدا لمثواك من مضجعي"، أجاب الجصاني "إن ما كتبه الجواهري عن بطولة الحسين، يعد حالة واحدة من عشرات الحالات، التي كتب فيها ليمجد قيم الفداء، ويوثق الأحداث التاريخية العظيمة. وفي هذا النص يجسد الجواهري رموزية واقعة كربلاء، ولا يمكن وضعها ضمن القصائد البكائية، رغم ما حملته من وصف". موضحا أنه "قد سبق للشاعر وأن كتب رثاء للزعيم المصري جمال عبد الناصر بعد موته، لا يقل كثيرا عما جاء في هذه العينية، وكذلك كتب عن جمال الدين الأفغاني، والعاهل الأردني الملك حسين، وحافظ الأسد، وعن الملك الحسن، وعن حالات إنسانية، وهو بذلك وثق الحدث، وتحدث عن الإنسانية في هذا الحدث". وفي هذا الصدد، يعتقد الجصاني أن "الجواهري لم يكن مسحوبا على أي أيديولوجيا فكرية، لأنه كوني النظرة، إنساني المشاعر، تعمد أن يبتعد في تجربته عن القطرية والطائفية، معتقدا أن الضمير الإنساني يبقى هو الحسم، وليس الادعاء والتقول". جفاء "براغ"! وفي رده على عدم وجود شارع أو مقهى، أو حتى مجسم يحمل اسم الشاعر الجواهري في "براغ"، وهو الذي عاش فيها ثلاثين عاما، ورغم أن عادة "البراغيين" الاحتفاء بالمبدعين، بمعزل عن جنسياتهم، أكد رواء الجصاني أنهم في المركز، لا زالوا يتواصلون مع شخصيات تشيكية رفيعة، وكذلك مع مكتب المحافظة التشيكية بهذا الخصوص، حيث تم التراسل مع وزارة الثقافة التشيكية، وقاموا كذلك بتشجيع الحكومة العراقية، والسفارة العراقية، وجميع المؤسسات ذات الصلة، لدعم طلبهم، بتسمية شارع في "براغ" يحمل اسم الجواهري. مطالبين أيضا بأن توضع صورة الجواهري في أحد مقاهي "براغ"، كما هو التقليد المتبع في كل المقاهي العريقة، التي يزورها الرواد. مركز الجواهري يروي رواء الجصاني، قصة إنشاء "مركز الجواهري" في براغ، والذي أجيز رسميا من الجهات التشيكية المسؤولة عام 2002، بحيث يمثل منظمة مدنية، لها حق العمل والنشاط، ويدير العمل به مجموعة متطوعة، بالتعاون مع مستعربين، ومتخصصين من العرب والتشيك والأجانب، كما أن للمركز صلات مختلفة مع مؤسسات ثقافية وأدبية عديدة، في مجالات التبادل الثقافي، وحفظ تراث الشاعر الجواهري. تواصل مع الجمهور وعن مدى تواصل المركز مع الوسط الثقافي العراقي، في ظل المتغيرات السياسية والثقافية التي يعيشها العراق حاليا، أشار الجصاني إلى وجود "تواصل معنوي لافت، ويتمثل في الحضور المكثف للنخب الثقافية من العراقيين، وغيرهم من الجاليات الأخرى، في مختلف الفعاليات، سواء المناسبات التي كانت تقام للجواهري نفسه، أو تتناول تجربته، وغالبا ما تكون بشكل مشترك مع المؤسسات الدبلوماسية العربية، حيث تحظى باهتمام رصين، خلافا للفعاليات التي تبهرج بالأغاني والرقص، والتي عادة ما يكون حضورها أقل بكثير". ودلل الجصاني على الحضور الكبير الذي يصاحب أي فعالية ترتبط باسم الجواهري، بالحشد الذي حضر إبان الذكرى العاشرة على رحيل الجواهري، والتي أٌقيمت في المكتبة الوطنية في "براغ"، برعاية وزير الثقافة التشيكي قبل ثلاث أعوام، قائلا "كانت مناسبة لم تشهد لها العاصمة براغ مثيلا، وقد أقيمت وبحضور عميد السلك الدبلوماسي العربي حينها الأمير منصور، وكل السفراء العرب، وقد حضر في هذه الفعالية 15 مستعربا، من أبرز المستعربين التشيك، حيث كرموا في هذا الحفل، لتعزيز العلاقات الثقافية والإنسانية، بين الوسطين الثقافي التشيكي والعربي". جهد ذاتي أما فيما يتعلق بالجانب المادي، فلم يخفِ الجصاني القول إنهم ينفقون على المركز من "جيوبهم الخاصة، والخاوية أحيانا، من أجل المساهمة في بعض التنوير، وفي إشاعة مفاهيم الإنسانية، وحب الناس، والمواقف الشجاعة المتمردة الواثقة للجواهري، التي أشاعها في أكثر من 25 ألف بيت كتبها". وهم رغم الإمكانات المحدودة، إلا أنهم خطوا خطوات في توثيق تجربة الجواهري، حيث قاموا بتوثيق كثير مما كتبه عن "براغ"، وقام المركز بتقديم عدد من الإصدارات، منها "الجواهري وعشرة أعوام على الرحيل"، و"الجواهري لواعج ومواجهات"، و"الجواهري إيقاعات ورؤى"، إضافة إلى عدد من الترجمات باللغة التشيكية لنصوص الشاعر. زلة العمر وفي سياق عمل المركز، في جمع تراث الجواهري، سألنا الجصاني، إذا ما كان للشاعر أي قصائد حاول التخلص منها، كعادة كثير من الشعراء، فأجاب "لدى الجواهري إخوانيات صغيرة لم تنشر، ولديه قصيدة واحدة لم يقتنع بها، حيث اعتقد بنفسه خلافا للنقاد، أنها لم تكن منسجمة مع قصائده، وقد افتعلها، وهي قصيدة كانت عبارة عن تحية للملك فيصل الثاني، بمناسبة تتويجه، حيث سماها الجواهري ب"زلة العمر"، وهي القصيدة التي تخلو منها دواوينه، رغم جمالها، وكونها تعد لدى بعض النقاد من الروائع الشعرية، وقد سبق وإن كتب عنها الجواهري مبررا أسباب عدم نشرها". زيارة المملكة وعن علاقة الجواهري مع الوسط الثقافي السعودي، أشار الجصاني إلى زيارة الجواهري إلى المملكة، عام 1992، وذلك بدعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، والذي كان وليا للعهد حينها. كما تحدث الجصاني عن "علاقة الجواهري الطويلة مع رئيس تحرير الشرق الأوسط سابقا، ورئيس تحرير صحيفة إيلاف الإلكترونية حاليا، عثمان العمير، حيث إن للجواهري إخوانيات شعرية مع العمير، خصوصا حين غضب عليه الجواهري، لنشره قصيدة نسبت إليه، ثم عاد عثمان ليعتذر منه، في لندن عام 1990، فرد عليه الجواهري بقصيدة عتاب، وتعد من الطرائف الجميلة".