وصلتني رسالة من صديقي الكابتن صبري صالح أبوالفرج.. طيار لم يكتب لي بلغة المصطلحات الفنية بل بلغة الحواس.. لم ينتم صبري يوماً إلى مدرجات كلية الآداب وليس له الكثير في ما قاله «ابن عرابي»، لكنه لديه ملكة الكتابة الإنسانية فهو إنسان يخلق لوائح طويلة من البديهيات التي تناسبه ليرتاح.. يكتب ليحرر أناة من ثقل المعاناة.. يصنع العبارات ويصيغها لتتناسب والحدث المعاش والحدث الذي استفزه وأحس وكأنه أصيب بقذيفة هاون فشتتته إلى شظايا على شكل مفردات وعبارات هي قضية «الجحود»، ومن يعرف صبري يعلم سر حرائقه فهو إنسان وفي صوته الجهوري وطوله الفارع لا يعبر عنه كثيراً فهو طفل يشبه زهر الرمان رهيف الإحساس دموعه مؤهلة للانفجار، حينما ترى أو تسمع ما قد يحرك براكينها الخامدة أترك الكابتن صبري يصحبكم في رحلة لا تشبه رحلاته المعتادة التي يقوم بها حيث هي رحلة مختلفة عناصرها الكلمات والأحاسيس يقول في رسالته البسيطة بساطة السماء التي يحلق دائما إليها «عندما كنت صغيراً تعلمت معنى الوفاء بين الأصدقاء من والدي رحمه الله تعالى، فقد كنت أراه مع أصدقائه يعودون صديقهم المريض حال مرضه لمواساته والاطمئنان على صحته، كنت أشعر بمثل ذلك التكاتف الاجتماعي في الحي الذي سكنت فيه، فقد كان الناس يحرصون على زيارة مرضاهم ومواساتهم بشكل شبه يومي، ويبعثون أبناءهم للسؤال عنهم وتلبية احتياجاتهم من مأكل ومشرب وبخاصة إن لم يكن لذلك المريض أبناء ذكور. مرت السنوات، ومرض صديق عزيز ذو حس فكاهي وحنكة وخبرة في الحياة، وقضى حياته فاتحاً بيته لجميع الأصدقاء، فهو بمثابة والد لبعضهم، وأخ أكبر لبعضهم الآخر. كتب الله على ذلك الرجل بمرض عضال يحتاج إلى عملية جراحية دون تأخير، وعند موعد العملية لم يحضر إلا اثنان من أصدقائه أحدهم حديث عهد بالصداقة معه لمرافقته ومواساته. وبعد نجاح العملية، وعند استفسارنا عن بقية الأصدقاء (أصدقاء العمر) جاء رد معظمهم أنهم «مشغولون» ثم لَم نسمع منهم بعد ذلك. أما بعضهم فقد كان يتصل بالهاتف، والآخر يرسل رسالة نصية، وآخرون يقولون إنهم مشغولون جداً وإنهم يدعون له بالشفاء. بعضهم كانوا يحضرون لإثبات الوجود على سبيل المثال زيارة الخمس الدقائق، بينما كان بعضهم ينتظر عند باب المستشفى إلى أن يُسمح لهم بالزيارة، وغيرهم كانوا بمثابة مرافقين لهم وتصبير زوجته وبناته وتلبية احتياجاتهم. ومما أثار انتباهي أن بعض الزوار كانوا من المقعدين على كرسي متحرك، لكنهم تكبدوا معاناة الطريق ومشقة الزيارة. سؤالي هو أين الوفاء بين الأصدقاء في هذا الزمن وهل الأصدقاء فقط للضحك والمزاح ؟. أين ذهبت سنوات العمر بهذه الصداقة، وهل يُعقل أن حديثي الصداقة هم من يقفون طوال اليوم معه، ومن كانت صداقاتهم سنوات طوالا يكون حضورهم بشكل صوري ؟!. هل صار السؤال عن المريض كافياً باتصال أو رسالة من بعضهم، وهل زيارة نصف ساعة تعد مشقة لهم ؟!. لقد أُحبطت مما رأيت ولمسته في تلك الأيام العصيبة، وقررت أن أصف الوفاء في هذا الزمن بالوفاء الإلكتروني !.» كأن كبتن صبري يقول هنا ما قاله الشاعر محمود درويش في قصيدة «سأحلم»، لهذا لم أتوقف عن الركض.. أطير على الرصيف هارباً.. من مدينة هجرتها الملائكة أبحث عن من يؤمن ببقايا مثل ومبادئ تشبهني.. علها تنقذني من وجعي، هذا ما قاله محمود درويش، هذا ما قاله كابتن صبري صالح أبوالفرج وكأن الاثنين متفقان في البحث عن منطقة قصية من الحياة، كان ينمو في تربتها الود كشقائق النعمان والذي اختفى كغيره من أشياء كثيرة صارت بفعل الزمان كنزاً نحتاج إلى الحفر تحت التراب لاستخرجه كالبترول الصخري!. Fouad5azab@ [email protected]