أبقوا في منازلكم فهناك عاصفة ثلجية شديدة.. كان يقول ذلك مذيع النشرة الجوية وأضاف بأن المدارس والجامعات ستكون مغلقة في الغد .. وأنهى حديثه بأن قال تصبحون على خير .. لم أكن منزعجا فلا شيء مهما عندي يستدعي خروجي غدا .. كان لدي فيلم وثائقي أهداني إياه إبني ( فراس ) أحضره لي من مكتبة المستشفى الذي يعمل فيه ولم أجد الوقت المناسب لمشاهدته .. أحيانا من يحب السينماء يجد فيها الدفء .. صحوت اليوم التالي على صوت قطار القرية العجوز الذي منذ أقمت في هذه القرية لايبدل عادته الصباحية يمر بمحاذاة الميسوري يطلق صوته الحزين مرحبا بالصباح وتلمع عيناه الأماميتان .. قلت في نفسي وأنا أفتح جفني الذي حسبته البارحة نجمة وأقوم اعوجاجا في ظهري .. أيها القطار العجوز ما أقوى ضجيجك تذكرني برذائل العمر عندما ترتفع اصواتنا وتتهالك قوانا .. عشت وقتا ليس بالقليل أحدق في الغابة الجرداء وأتأمل تفاصيل كثيرة كانت تغطيها الأشجار صيفا من خلال النوافذ الزجاجية العريضة..تطلعت إلى الدخان المتصاعد من السقوف المغطاة بالثلج .. كانت تلك البيوت تشبهني إلى حد ما ( فبياض ما فوق رأسي لايعني أن الدفء لايعيش في داخلي ) كانت رقائق الثلج المندوف تتساقط في الخارج وأنا اجلس بالقرب من موقد النار أنصت إلى طرقعة الخشب.. أؤدي فريضة الصباح.. انتهي من الفريضة.. أخذت أتأمل شبابيك البيوت المجاورة تتساقط من أطرافها الثلوج المسننة المسكرة كخناجر الحب.. كالأصابع الطويلة.. كشقوق العسل.. كانت حلية حول أعناق النوافذ .. شممت رائحة خبز منزلي تعده زوجتي أخذت اثنين من كعك الصباح الطري.. تصفحت جريدة (الكانسس ستي) .. كنت أستمع إلى أغنية ساحرة للرائع ( علي الحجار ) ومن كلمات الشاعر الجليل إبراهيم عبد الفتاح يقول فيها: لما الشتا يدق البيبان.. لما تناديني الذكريات .. لما المطر يغسل شوارعنا القديمة والحارات.. القاني جايلك فوق شفايف بسمتي.. كل الدروب التايهة تنهدة خطوتي.. كل الليالي إللي في قمرها قلبي بات.. مش جاي ألومك على إللى فات.. ولا جاي أصحي الزكريات.. لكني بحتاج لك ساعات.. لما الشتا يدق البيبان .. بعض الأغاني تتسلل إلى الذاكرة وتركن بداخلها طويلا تبحث عن لحظة مستفزة.. هذه الأغنية من ذلك النوع .. أخذت في مشاهدة الفيلم.. بعض الأفلام الوثائقية مملة أو معظمها على الأقل.. فإذا لم تكن هاويا لها فسوف يكون من الصعب عليك أن تتحمل الفيلم.. الفيلم كان عن مرض ( الزهايمر) بعنوان ( هل تذكرني ياجدي). الفيلم ضمن سلسلة أفلام مفيدة أصبحت تنتجها المستشفيات التعليمية هنا بالتعاون مع الجمعيات المتخصصة عن الأمراض المختلفة وذلك بهدف نشر الوعي الصحي في المجتمع وكيفية التعامل معها .. حيث الزهايمر أصبح المرض رقم (2) الذي يهدد المجتمع الأمريكي مباشرة بعد السرطان ولقد شاهدت العديد من الأفلام عن (الزهايمر ) ك (بعيد عنها ) وهي قصة زوجين تصاب الزوجة فيتبعها زوجها للمصح ليعيش معها لعدم قدرته على فراقها والرواية الشهيرة التي تحولت إلى فيلم (مذكرات يومية) حيث يذهب الزوج كل يوم لزوجته في المصح ليروي لها قصة من ماكان يحدث بينهما من دقائق الزمن لينعش ذاكرتها يقول لها في أحد المقاطع ( عثرت اليوم في ثيابك على خرز أزرق تعثرت روحي في نعومته هل تذكرين ذلك الرداء الأبيض المرصع بالخرز الزرق الذي شريته لك في عيد الحب .. يحدثها كيف كانت تردد أسمه وتقبل خديه يحدثها حديثا يمتد حتى وجع الأكتاف ) كذلك فيلم ( عندما يشيخ الأصدقاء ) وأفلام أخرى. أعود للفيلم الوثائقي الذي يحاول أن يوضح لأقرباء المرضى (بالزهايمر) أن لديهم القدرة على اكتشاف الأعراض على المريض قبل الفحوصات الطبية للذاكرة حيث بوسعهم مراقبة ضعف المريض على اتخاذ قرارات مالية ومسائل حياتية بسيطة وفقدان الرغبة في القيام بنشاطات وتكرار الأسئلة والقصص.. هذا وعلى الرغم من أن السينما تناولت هذا المرض واهتمت به إلا أنه أيضا أصبح محورا أساسيا لأحداث بعض الروايات كان آخر ما قرأته ( الزهايمر ) للدكتور غازي القصيبي رحمة الله عليه حيث يقول في جزء من الأقصوصة ( يقف العريان أمام بائع العطور ليشتري زجاجة من عطر زوجته المفضل ( كسنتركس) تسأله البائعة ماذا يريد.. يحاول عبثا تذكر الاسم تحاول البائعة مساعدته على التذكر إلا أنه يعجز تماما عن تذكر العطر .. عطر زوجته المفضل!!) وفي رواية عشق بسيط (تسجل الكاتبة الفرنسية (أني أرنو) كل التفاصيل الدقيقة عن مأساة والدتها مع مرض الزهايمر تحكي تجربتها الذاتية المريرة والتي خاضتها مع أمها حين شاخت ذاكرتها وضمرت خلايا المخ وأصبحت تلهو كطفلة في سن الرضاعة تشع من عينيها براءة لا تشي بأي خبرات من تلك التي تراكمت عبر سنوات عمرها المديد والذي تجاوز الثمانين سقطت كل الأحداث والمواقف ومحيت الأسماء والتواريخ ولم يعلق بذهنها سوى ما فصلتها عنه السنوات الطويلة أما واقعها الآني وعالمها الذي تعيش لحظته فهو غائب تماما لاتعرف عنه شيئا ولا يمت لها بصلة قالت (أرنو) عن أمها المريضة انها كانت مسجونة في ماضيها تجتره بحنين وتعي كل دقائقه).. أما (كارول) بنت مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة فتجسد محنتها بعمق مع والدتها حيث تقول: ( عرفت أن أمي أصيبت ب ( الزهايمر ) حينما وجدتها تخلط خلال النقاشات بين حرب الفوكلاند والبوسنة ثم تضيف كدت أسقط عن مقعدي ولم أصدق نفسي وأنا أرى أمي تتصارع الكلمات في فمها وهي تبحث في ذاكرتها عن التواريخ فقد كنت كثيرا ما أعتقد أن أمي حديدية مائة بالمائة). والمرأة الحديدية هو الوصف الذي اشتهرت به تاتشر .. وسبحان مغير الأحوال .. !! [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة