بعد الدش الدافئ ارتديت ملابسي وأديت فريضة الفجر.. تأكدت من وجود بطاقة السفر والجواز ومصحف صغير مع أدويتي وبطاقات الائتمان.. خرجت من البيت قاصدا المطار.. كان سفرا قسريا مؤلما وغير مخطط.. فهذه السفرة مغايرة لكل سفراتي السابقة.. كان سفري من أجل إنسان أكن له حبا وودا غير محدود رجل أحب رائحته.. لكل إنسان نسيمه الخاص لايتكرر في شخص آخر.. هو أبي بعد أن فقدت أبي يبدو أن الإنسان في شتى مراحل عمره يحتاج إلى أب ربما يجده في صديق يكبره أو شيخ يهتدي به .. وصلت (دوسلدورف) حيث نقل المريض إلى المستشفى هناك.. خرجت من الطائرة.. كان قلق سادي يسيطر علي.. كان مسرورا بوجودي.. كنت قد اتفقت مع الدكتور يوسف قاري أن نلتقي في (دوسلدورف) فيوسف إضافة إلى كونه عالما سعوديا متميزا في عالم المناظير إلا أنه صديق حميم يحيطك بمناخ استثنائي ورغم طوله الفارع إلا أن عيونه تغرورق بالدموع حالما يتحدث أحيانا عن أمور مريض عجز العلم عن إنقاذه.. في اليوم التالي قابلنا الطبيبة التي تشرف على الحالة.. جميلة في الستين من العمر تحتفظ بمحياها الملائكي المبهر وهيبتها الأسطورية واحدة من تلك النساء اللواتي لا تقرأ عنهن إلا في الأساطير.. عالمة مزودة بالعلم والخبرة ولديها إنجازات مهمة إلا أنها كانت امرأة توغل في التواضع.. بعد فحص المريض باغتتنا كشمس صريحة بضرورة إجراء العملية وفي أسرع وقت.. لازلت أذكر دهشتي المباغتة عندما أبلغتنا بالنبأ.. لم تكن جراحة عادية.. أصبح إجراء العملية حقيقة مفروغا منها.. أمر سيقع.. هكذا اعتبرت والدكتور يوسف أنه قرار ولا خيار حتى في الشروع في المناقشة.. وتمت العملية كانت هناك تفاصيل دقيقة مبهرة بعضها عملي علمي احترافي وآخر إنساني يضيق المكان هنا عن ذكرها.. تصب كلها في خانة الاحتراف العالي الراقي وأهمية قيمة المريض.. تأكدنا أن العملية تمت بنجاح.. لا أستطيع وصف حقيقة مشاعري.. لا أستطيع أن أصف لكم حجم ابتسامة رجل في أواخر الخمسين تخيلوا نافورة يصعد ماؤها ولا ينزل.. قال لي يوسف حان وقت الاحتفال.. حان وقت إشعال التبغ البني (للأسف أشترك ويوسف في عادة تدخين الغليون).. سحبني يوسف إلى الخارج حيث مقعدان مستطيلان متواجهان أشبه بالدكك يطلان على باحة فسيحة تنتشر فيها الأشجار وتصطف حولها الدراجات الهوائية بنظام حول الشجر مكبلة بقيود حديدية وأقفال في أماكن منتظمة تحدد مكان وقوف كل دراجة.. في ركن قصي من الساحة كشك بحجم الكف يقدم وجبات سريعة شطائر تملأ المعدة وقهوة.. ما أن بدأت الجلسة نكهتها حتى تنبهنا إلى خروج البروفيسورة المعالجة كتفاحة حرة طلعت بغتة خلعت معطفها الأبيض وضعته في حقيبتها التي تحملها خلف ظهرها.. أخرجت مفتاحا من جيبها حررت به قفل أحد الدراجات المنتصبة في الساحة أمام المستشفى وما هي إلا دقائق حتى انثنت كغيمة على دراجتها وبخفة ابتلعتها والدارجة الأزقة المتشعبة.. كانت الكلمات والأفكار تتصارع وتتلاطم في مخيلتي ومخيلة يوسف مثلما يبرق النوم بالحلم.. وعدنا من (دوسلدورف).. حقيبتنا ملأى بالهدايا، ثياب وتذكارات غير ذات شأن تضيع ويختفي توهجها بعد حين.. منظر بروفيسور (شومخر) وهي تستقل دراجتها الهوائية.. مواصلاتها اليومية سيبقى طويلا يتمايل على أطراف ذاكرتي كوثيقة (للتواضع).. والذي طالما نفتقده اليوم !!.. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة