لندن في الربيع كعادتها ممطرة دون انقطاع.. الناس تجد الخطى تحت الرذاذ والسماء الرمادية هربا إلى جدار أو نفق يحميها.. ساقتني قدماي إلى مقهى عربي في (إدج وير) هذا الشارع الممتد كناي والذي يطل منه العرب على لندن.. أعتقد أن من يمر بلندن دون أن يذهب إلى (إدج وير) كمن يزور القاهرة ولا يشرب كوبا من العرقسوس.. كان المطر يصيب الجميع بالبلل حتى العظم.. الكل يرفعون ياقات ستراتهم ويحنون ظهورهم أكثر ويستمطرون الدفء.. عثرت أخيرا على نظارتي في جيب معطفي الرمادي.. فرحت بالنظارة فرحتي بالمطر.. أخذت أتأمل المطر بعد أن احتميت بالمقهى.. كنت أبحث عن سلام جديد في زماني وكان الزمان معي ورواية للطاهر بن جلون .. الجرسون رجل نحيل تختلج على شفتيه ابتسامة فريدة ممتنة راضية ظاهر التهذيب واللطف.. كان الجميع ينادونه بالدكتور واكتشفت فعلا أنه (طبيب) ضل الطريق فامتلك مطعما وهو حكاية من حكايات المهاجرين الذين أضاعوا الطريق إلى أحلام لم تكن في رؤوس قادتهم.. اقترح علي أن أتناول سحلبا ساخنا فوافقت على اقتراحه ممتنا.. كان اللون الأخضر يسيطر على جدران المطعم.. في نظري هذا اللون أكثر الألوان أناقة.. كان المقهى يمتلئ بمهاجرين لا يعيشون في أوطانهم ولكن أوطانهم تعيش فيهم تلاحقهم مثل ظلهم.. يعيشون في عالم الغربة بكل معانيها يحنون إلى عالم أفل يتمنون العودة إليه.. يسهرون حول مائدة الحياة يتقاسمون الغياب مع طاولة.. كانت هيفاء وهبي تتراقص بعنف وتفور بالحياة على الشاشة الممتدة بعرض الحائط دونما اكتراث لما يحدث على الشاشة المجاورة حيث العالم يترنح والموت يرقص رقصته ويمتد الحريق من أقصى حدود الروح حتى أدنى محيط الدم... مقدمة برامج إنجليزية شابة جميلة شقراء فارعة ذات عيون زرقاء معدنية تبذل جهدا واضحا لإعداد تقرير عن الربيع العربي كانت تحاول استضافة ومحاورة أكبر عدد من جلساء المقهى.. كانت تستهدف العرب دون سواهم.. كانت تبتسم لمن تحاورهم ابتسامة لو رآها أثبت الرجال لفقد صوابه.. كان كل منهم يحكي للمذيعة حكاية المساء.. قال لها أحدهم: لابد من إيقاف هذا الهذيان فقد تجاوز الحد !!. كهل تحدث إليها بعينين حزينتين وبصوت كمزمار مشروخ قال لها: إنه ضياع محتمل فلا أحد يعرف ماهو المصير!!. آخر كان يغرس نظرته في الفراغ وعلى وجهه شعور فاتر يشبه اليأس قال لها: نار ستغسل الدنيا من الفساد والآثام.. أحد الشباب جاء صوته جارحا مجروحا قال لها: لم يعد في البئر ماء سرقوا كل شيء.. أحدهم وكان يستمتع بزفرات نرجيلة واضعا رجله اليمنى فوق الأخرى مسترخيا في جلوسه مع أصحابه قال: لها لايهمني الأمر فلم أعد هناك!!. كانت الكلمات تتلاشى في الروح وتتعثر في الانفعالات وكأن الجميع ينظرون إلى أفق مغلق!!. كان واضحا ضياع الحدود بين الكوابيس والأحلام والغد الذي لا يأتي بل يمضي كأي نهار غربة آخر.. كان محمود درويش يصدح بصوت مرسيل خليفة صارخا مشبوبا بالعواطف في الخلف: ماذا جنينا نحن يا أماه حتى نموت مرتين فمرة نموت في الحياة ومرة نموت عند الموت .. هل تعلمين ما الذي يملؤني بكاء؟، هبي مرضت ليلة.. وهد جسمي الدواء.. هل يذكر المساء.. مهاجرا أتى هنا.. ولم يعد إلى الوطن؟ هل يذكر المساء.. مهاجرا مات بلا كفن !!. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة