للبدايات نشوة عجيبة غريبة، فالبدايات غالبا تكون ذات سحر وألق، ولها مذاق عذب يظل عالقا بالذاكرة لا تمحوه السنون ولا يبهته كر الأيام. أغلب البدايات تتزخرف بجمال خاص لا يدانيه جمال، فالبداية تأتي تحمل معها من النشوة والإثارة والدهشة ما يثملنا، ويخلب ألبابنا. أول راتب، أول حب، أول رحلة، أول مولود، ثم ما تلبث تلك الأشياء أن تتوالى في حياتنا، يتوالى الراتب، وتتوالى علاقات الحب، ويتوالى السفر، ويتوالى قدوم المواليد، تتوالى الأشياء في حياتنا فيحيلها التوالي إلى (تكرارات) باهتة باردة، بعد أن سلب منها التعود والألفة ما كانت تتألق به من عذوبة واندهاش وإثارة تطربنا وتزرع البهجة في نفوسنا. ليت كل الأشياء في حياتنا تظل بدايات! كلما تقدم بنا السن، تناقص عدد البدايات في حياتنا، وكلما نقص عدد البدايات تناقص وجود المتعة والإثارة والدهشة فيها، فيسري الذبول إلى ما كنا نغرق فيه من لذة الانتعاش والحيوية، وتبدأ البهجة في الذوبان التدريجي متفلتة منا، إلى أن يأتي يوم نجدها قد ضلت الطريق إلى قلوبنا. يبدو لي أن بهجة الحياة مقرونة بالبدايات، فالبداية تمثل الجدة، والجدة تعني اكتشاف ما كان مجهولا بالنسبة لنا، ومتى استطعنا أن لا ينقطع خيط البدايات في حياتنا، كان ذلك رافدا يمدنا بما تحمله البداية من النشوة والفرح، وربما لذلك نجد بعض المهتمين بالدراسات النفسية، يوصون الذين يشتكون من الضيق والاكتئاب، خاصة من تقدمت بهم السن وصاروا يعانون من اكتئاب الشيخوخة، يوصونهم بمداومة الاستكشاف والبحث عن خبرات جديدة، وتعلم مهارات مختلفة. كوسيلة معينة على التشبث بجلب البدايات إلى حياتنا، واستعادة التمتع بذلك المذاق العذب الذي عرفت به. ومع ذلك، فإن بعض الناس الذين يعشقون النكد، يصرون على أن ما نجده من جمال في البدايات، ما هو إلا جمال مزيف، فالبدايات مخادعة تغشنا بما تتبهرج به من بريق الألوان، فتطربنا بمنظرها الخلاب فنتعلق بها، ونظل نتبعها وهي تقودنا الهوينا حتى توصلنا إلى النهايات المطوقة بالبشاعة، فتقذف بنا في أتونها. نزار قباني رغم كل البدايات الجميلة التي مرت به وعانقته نشوتها، لم يجد في آخر أيامه رفيقا له، سوى النهاية الشوهاء، فراح يردد حزينا مكتئبا: «لم يبق شيء في يدي، هربت عصافير الطفولة من يدي، هربت حبيباتي، وذاكرتي، وأقلامي وأوراقي، لم يبق عندي ما أقول، يبست شرايين القصيدة، وانتهى العمر الجميل». [email protected]