لذكرى الحبيب رعشةٌ تهزُّ أركانَ فؤاد العاشق وتُنبضُ أوتارَ روحه فهي التي تُذكي جمر الشوق ولهفةَ الوجد فتعصفُ بالمشاعر وتعتصرُ الجوانحَ قطراتٍ من بوحٍ مُعتَّق تثملُ أرواح المحبين، يقول قيس : كأن فؤادي في مخالبِ طائرٍ إذا ذُكِرَت ليلى يشدُّ بها قبضا ! ويقول أبو صخر الهذلي : وإنِّي لَتعروني لِذكراكِ هزّةٌ كما انتفضَ العصفورُ بَلَّلَهُ القطرُ ! ويالها من حالة شعورية تمتزجُ فيها الصبابةُ والرضى والشوق بمرارةِ البعد ووحشة الفقد وغربة الوحدة. والعاشق وإن (من حيث تسعده) آلمته الذكرى فإنها تعللُ نفسَهُ وتؤنسُ غربتَهُ فتراهُ يحرصُ على الخلوة ويستجدي الطيف إلى حدٍ يجعلهُ يهربُ من وحشة الواقع إلى أُنسِ الكرى لعلّهُ يحظى بطيفِ محبوبته يقول قيس: وإني لأستغشي وما بي نعسةٌ لعل خيالاً منك يلقى خياليا! وإن كانت لذةُ الذكرى تُداوي جراح الفؤاد وتُنسي ضنكَ الفراق فإن دهشة اللقاء أكثرُ هزّاً للروح وأشدُ عُجباً من أُنسِ الطيف حتى لكأن العاشق يفقد الإحساس بالزمن ويعتريه تخدير يسلبُ بقايا رعشته و نُثارَ دهشته فيهتزُّ أديم الروح وينبتُ زهورَ البهجة وينثرُ زلالَ البوح. كل ذلك وأبعدُ منه نجده لدى المبدع المتفرِّد الشاعر نايف الرويلي في قصيدته (عناقيد الغَنَج) جت باوّل الشارع وجفني بين رده واعتدال ومرّت وذابت بي قبل يرتد من جفني شعره ! دعونا نتأمل البيت (بعيداً عن بلاغة التصوير ومتانة السبك) ونرى أي بهجةٍ أوقفت عجلة الزمن لِبرهةِ ارتواء بعطرِ القدوم الذي تضوّعَ فأثملَ الروح وكحّلَ العيون وأثلج جمرَ المحاني. إنها روعة الشعور وجمال الشعر وعبقرية الشاعر الذي لم يسلبه المشهد ما يحمل في نفسه من إجلال وإكبار لهيبة الجمال الذي تهادى في قدوم فاتنته فأردفَ مباشرةً وصفاً يليقُ ببلقيس الجمال لِيُضيف لدهشة القدوم دهشةَ الإبداع. تجرّْ ثوب الغطرسة والعنجهية والجمال تمشي تقل تمشي علي شيٍ تخاف تكسّره ! أكادُ أشعر برعشة الذهول ودهشة الإقبال وجمال المنظر..! (تجرّْ ثوب الغطرسة) إنهُ إجلال المُحب لِزنبقة فؤاده وسالبة لُبّه فالوصف لا أراهُ إلاّ إكباراً لجلال القدوم ولا يعني مطلقاً الكبر والتِيه بل كبرياء الأُنثى وغنج المعشوقة (الذي ألمح له في العنوان) التي تحتفظُ لِجمالها بأناقة المظهر ورونق الهيئة لذلك تراهُ مباشرةً يقول (والعنجهية) التي لا أراها إلاّ التلقائية وعدم التكلّف لذلك لم يقل بعدها (الدلال ) مع أنه صفة محببة في الأنثى و ترادف الغطرسة ولكن الشاعر يتعامل مع الصورة ككل متكامل فقال( الجمال) وهو أكثرُ جذباً لروح العاشق من الدلال ، وتأكيداً للمعنى العام للبيت فقد قال:(تمشي تقل تمشي علي شيٍ تخاف تكسّره !) وهو يحوي ضمناً معنى الدلال وينفي صفة التيه والكِبر فالمتكبّر لا يخاف على شيء والشاعر يؤكد على الدلال والنعومة ولين العود ورقّة الملمس حتي قال في بيت تالي يؤكد البساطة والتلقائية والعفوية التي تنفي الكبر أيضاً في وصفه لمحبوبته مع مشهد المكان البسيط: (كل ما وطت حجرغمز.. للي وراه يبشّرِه !) القصيدة دُرّةٌ من درر الشعر وهذان البيتان لهما من الوهج ما يُغني النفس عن البحث عن مزيد جمال مع أن القصيدة تستحق الوقوف والإقامة في روض سحرها. نايف الرويلي شاعرٌ لم أقرأ لهُ كثيراً(ربما لتقصير مني) ولكن البيت بِرُتبة قصيدة و القصيدة بِرُتبة ديوان.