هذه الحياة مملة أكثر مما ينبغي.. (الشدة) هكذا حدثت نفسها وهي تفتح عينيها بصعوبة، يهدها إرهاق ليلة لم يزرها النوم فيها إلا لماما. قاومت لتنهض وتلحق بأول يوم في وظيفتها الجديدة، دون أن تغادرها الرغبة في إكمال نومها، وإلغاء فكرة العمل تماما، لكنها عادت وفكرت أنها بذلك ستغرق مجددا في حالة الملل، وهي تحاول جاهدة الخروج منها. شعرت أن الوظيفة الجديدة ضاجة بالحياة منذ اللحظة الأولى لقبولها فيها. صحيح أنها لم تكن ترغب في العمل خلف مكتب صغير وجهاز كمبيوتر، رفقة أناس لا تعرفهم. لكن تقدير مديرها لقدراتها، سهل الأمر، حيث عينها في أحد أقسام الدائرة الهامة. رأت الغيرة في أعين زملائها وهم يسألونها عن خبراتها، حين رأوا الفتاة صغيرة السن، رفقة مساعدة المدير وهي تطلعها على مكتبها الجديد ومهامها التي لا تختلف كثيرا عن مهامهم. لا شك لديها أنهم يعتقدون أنها حازت هذه الوظيفة بناء على مفاتنها، وليس لأمر يتعلق بالمؤهلات. لكن لا بأس، فليس ذنبها أنها فاتنة، وهم مجموعة يغمرهم القبح. كان يجدر أن يسعدهم الأمر، لكنها تعرف تماما أن الناس لا تكتمل متعتهم بالجمال ما لم يمتلكوه. كانت واثقة من اجتيازها لاختبار القبول، لكنها لم تتوقع أن ينقلها المدير لوظيفة غير التي تقدمت إليها مع عدد كبير من المتقدمين. «ليس من العدل أن تعملي في هذا القسم المتواضع، فنحن هنا نقدر أصحاب المواهب العالية. ستعملين في قسم أشرف عليه شخصيا، كما أنه قريب من مكتبي». ابتسمت بغنج وهي ترى نظرة المدير اللئيمة وهو يفتل طرف شاربه، وقد أدركت المواهب التي يقصدها. ها هو أحمق جديد ينضم لطابور الحمقى الذين يدورون في فلك جمالها. لكن الأمر لا يزعجها كثيرا؛ فبدون هؤلاء كانت ستحرم متعة الإحساس بحضورها الطاغي أينما حلت. كانت الدائرة حديثة التأسيس مخصصة لأرشفة وثائق الدولة إلكترونيا. وهي وثائق كتبها مناضلو حرب الاستقلال كيوميات عن أنفسهم، أو عن زملائهم، أو القليل مما كتب من الأوامر والرسائل الرسمية، إذ كان يعمد إلى تجنب التعليمات المكتوبة ما أمكن. أطنان من الورق المهترئ المصفر، كان يتوجب إدخالها إلى «السيستم»، بحيث تكون متاحة في أي وقت بضغطة زر. ولم يكن مطلوبا في الظاهر من شاغلي هذا العمل إلا إلمام بسيط بالتعامل مع الكمبيوتر، غير أن المتقدمين لهذا العمل كانوا يمرون بالكثير من التدقيق، لضمان عدم استغلالهم لما يطلعون عليه بطريقة تضر بأمن البلاد. فقد علمت الفتاة أنهم وقبل قبولها، فحصوا سجلها الجامعي، زاروا كلية الفنون التي قضت فيها أربعة أعوام مضطربة. التقوا بعض أصدقائها، المقربين منهم والأعداء. عرفوا عنها كل شيء تقريبا؛ كيف نشأت يتيمة في كنف جدتها، وكيف قضت طفولة ناقصة دفعت بها نحو الانطواء، قبل أن ينقذها عالم الرسم الذي لأجله أكملت دراستها، وخرجت للحياة مجددا. كل هذه الأمور السيئة بالنسبة لها، كانت فيما يبدو حافزا للدائرة ليتم قبولها سريعا، فكلما قلت ارتباطات الواحد، بدا مناسبا أكثر. هذا ما عرفته تاليا. ومع كل هذا التدقيق فقد كانت الدائرة تعين المتقدمين الجدد مثلها في أقسام لا تتعامل بشكل مباشر مع الوثائق، على أن تتم ترقيتهم للأقسام الأكثر أهمية بمجرد إثبات ولاء مطلق وقدرة كبيرة على حفظ الأسرار، وهذا يتطلب وقتا طويلا. وهو ما لم يحدث معها على أي حال، فقفزت عدة مراتب لتعمل في أهم أقسام الدائرة وأكثرها حساسية. خرجت من غرفتها لتجد جدتها لأمها وقد أعدت لها قهوتها المفضلة. كان هذا أكثر ما تحتاجه في هذه اللحظة. لا تكف هذه المرأة عن مساندتها حتى في أدق تفاصيل حياتها، ولا تعرف كيف كان سيبدو كل شيء دون تلك المساندة. لجدتها الفضل في رعايتها بعد استشهاد والديها. لكن الأمر لا يتعلق هنا فقط بما تقوم به الجدات تجاه أحفادهن؛ فقد ساهمت كثيرا بحكاياتها في تخفيف شعور الفتاة بالسأم في هذه المدينة الباردة، رغم انشغالها بالسفر للقرى المجاورة، وتوزيع بعض ما تخيطه من ملابس على المرضى والمعوزين. أغرقت الجدة حفيدتها بالدلال، هذا على الأقل ما تسمعه ممن حولها. يقولون إنه وفي سعي الجدة لتعويضها عن فقد والديها، كبرت وهي تعتبر كل ما تريده حقوقا، وأن ما تسعى إليه يكتسب أهميته من رغبتها فيه مهما بدا تافها وبسيطا، رغم أنها في المقابل سرعان ما تمله بمجرد امتلاكه. لم تكن تغضبها تلك التعليقات، ولم تسع يوما لإثبات العكس. هي تعرف أن الغيرة تأكل قلوب من حولها، ولم يكن ذلك يستحق الالتفات. لم تكن الجدة تشبه حفيدتها؛ فقد كانت صحيحة الجسد، شديدة البياض، ولولا أنفها الأفريقي الأفطس، وشعرها الأجعد الكثيف المعقود عادة على شكل مقونان، لبدت سليلة عرق وافد من البعيد. ولم يكن من السهل أمام الفتاة أن تحدد حجم الشبه بين جدتها ووالدتها، فلم يبق في ذاكرتها شيء من أمها التي غادرت بعد الأب بقليل، وقبل بلوغ ابنتهما الثالثة، دون أن يتركا صورة تسند الذاكرة في مواجهة الزمن، وليقطعا بذلك آخر الخيوط التي كان بإمكانها أن تصل الفتاة بعائلتها الصغيرة. هذا الأمر لم يكن بالنسبة للفتاة سيئا تماما؛ فبقدر ما تمنت أن تستحضر صورة أبويها، بقدر ما حيد غياب الصور مشاعرها بعض الشيء تجاه فقدهما المبكر. وحدها رؤية الأطفال صحبة آبائهم كانت تستدعي حرمانها، عدا ذلك لم تكن تعبأ كثيرا بهذا الغياب، بل كانت أحيانا تسخر منه بتلذذ، قبل أن تعود في مرات أخرى لتبكي بحرقة غير مفهومة. وفي كل ذلك، كانت الجدة حاضرة لتعوض احتياجها. الجدة التي تقضي معظم يومها في العمل على ماكينة الخياطة، كانت بارعة في سرد الحكايات، ولعل انخراطها المبكر في النضال جعلها تغرف من ذاكرة لا تنتهي. وكان هذا كافيا ليصبغ مساءات أسمرا الرتيبة بالوهج. كانت الفتاة تقضي برفقتها ساعات المساء الطوال، تملأ روحها بالحكايات. تتشرب ما حدث وما لم يحدث. فبراعة الجدة تتجاوز سرد ما جرى، إلى تفاصيل لا يمكن نسجها إلا عبر خيال خصب. وكثيرا ما كانت تغير سريعا في مسار الحكاية إذا لم تر الدهشة في عين حفيدتها؛ تبدل النهاية، أو تحقنها بالإثارة أكثر. تحضر في حكايات، وتغيب عن أخرى. لكنها تحتفظ دائما بقدرتها على سلب اهتمام حفيدتها حتى النهاية. دائما ما كان يخطر لها أن حياة جدتها العريضة لا تكف عن مد حكاياتها بالغنى، فهي تنقلت بين مدارس البعثات التبشيرية، ثم المدارس الإيطالية التي ظلت في أسمرا بعد رحيل أصحابها، قبل أن تتخرج في جامعة أديس أبابا. كثيرا ما تمنت الفتاة أن تمتلك قدرة جدتها على الحكي، أن تجاري هذا الدفق غير المنتهي من التفاصيل. فهذا كفيل بأن يغير طعم وجودها، أن يقذف بالحياة في غرفتها الميتة، التي لا تبارحها إلا لحكاية جديدة. غرفتها مليئة باللوحات، فالرسم هو كل ما تفعله حين تجلس بمفردها. لكن اللوحات كائنات لئيمة، تبادلك الحياة طالما تعمل عليها، وما إن تنتهي، حتى تركن إلى الموت، ولا يعيدها إلى الحياة إلا إحساسك بها. عدا ذلك قد يستدرجك سكونها إلى منطقتها الميتة. على خلاف الحكايات التي تحتفظ بالحياة في حضورها والغياب. الحكايات لا تعرف السكون، فهي في حركة دائمة؛ من الشفاه إلى القلوب، إلى الملامح، إلى الهواء، إلى شفاه أخرى، وقلوب أكثر. خزانة ملابسها الخشبية تحتل ما تبقى من الغرفة وتخفف من سكونها كثيرا. يعجبها تأمل فساتينها المتراصة خلف بعضها. الفساتين التي تخيطها الجدة ببراعة تفوق ما تتخيله الفتاة وهي تختار تصاميمها في البداية. حين تنظر إلى الفساتين، يخيل لها أن كل واحد منها يحاول استمالتها، إغراءها. تقع في حيرة لذيذة حين تفاضل بين الأصفر الطويل، أو الأحمر الذي يكشف بهاء ساقها، أو الأسود عاري الظهر. تحب أقراطها العاجية أيضا. الكبيرة منها، حين تتدلى بغنج، وتحتك بخدها بلطف مع كل التفاتة، فتخلق موسيقى لا يسمعها غيرها. تحب الصغيرة أيضا حين تندس خلف شعرها كسر حميم لا يطلع عليه الغرباء. لفرط ما تبثه الخزانة من طاقة في روحها، استغنت عن أبوابها، جعلتها عارية، مشرعة كالنوافذ المطلة على مناظر مشتهاة. بدت في كامل أناقتها وهي تقف أمام مبنى الدائرة المكون من ثلاثة طوابق مصبوغة ببرتقالي متآكل، والمقابل تماما لبناية البريد المركزي وسط المدينة. صعدت السلالم بخفة وهي تراقب أعين المارة تلتهم ما كشفه فستانها القصير، وتطرب للموسيقى المنبعثة من كعبها العالي وهو يطرق بخفة العتبات الحجرية للمبنى العتيق الذي تركه الإيطاليون خلفهم بكامل سطوته. دلفت إلى المكتب الواقع في الطابق الثاني، فاصطدمت بأعين زملائها المتطفلة. كانوا ثلاثة رجال وسيدتين. وضع مكتبها إلى جوار السيدتين، بتوصية من المدير الذي لم يرد لها فيما يبدو أن تجلس بقرب أحد الرجال، لكن هذا جعلها في مرمى نظراتهم الجائعة.