للإعلام المسموع حكاية، بل حكايات، يجب أن تروى للأجيال الجديدة التي لم تعش حقبة كان فيها البث الإذاعي لا يصل المستمع إلا بشق الأنفس بسبب ضعف الإرسال أو عدم القدرة على امتلاك الوسائط (أجهزة المذياع) كنتيجة لارتفاع أثمانها من جهة، وتواضع مستويات المعيشة من جهة أخرى. أما من كان بمقدورهم امتلاك جهاز راديو خاص بهم فكانوا أيضا يتعرضون لمشكلات تعيق استمتاعهم بالبث الإذاعي مثل انقطاع الكهرباء أو حدوث خلل بالجهاز يصعب تصليحه لندرة وجود المختصين. غير أن الأحوال تبدلت 180 درجة مع الثورة التقنية في اليابان التي أنتجت وصدرت إلى أسواق الدنيا أجهزة الترانزستور الخفيفة القابلة للحمل من إنتاج شركات سوني وتوشيبا وسانيو وهيتاشي وغيرها، والعاملة بواسطة بطاريات بحجم الأصابع عوضا عن الكهرباء. هذه الثورة التي لا نبالغ لو قلنا إنها كانت أشبه بثورة الهواتف النقالة ووسائل التواصل الاجتماعي الحالية، لأنها وفرت للناس البديل عن أجهزة المذياع التقليدية الضخمة التي لم تكن تختلف في حجمها ووزنها عن قطع الأثاث الكبيرة، بل التي لم تكن تعمل إلا بأسلاك كهربائية أو بطاريات جافة في حجم طابوق البناء وأريلات مثبتة على أسطح المنازل أو خارجها. إذاعة مكة وإذا ما حاولنا التأريخ للإعلام المسموع أو البث الإذاعي في دول الخليج والجزيرة العربية الست، نجد أن أول إذاعة تأسست في المنطقة كانت إذاعة البحرين الأولى التي أنشأها الإنجليز بالمنامة في عام 1940 لتزويد الجمهور بآخر تطورات الحرب العالمية الثانية، وأيضا لمواجهة دعايات إذاعة «هنا برلين.. حي العرب» النازية التي كان يشرف عليها المذيع العراقي متعدد المواهب المرحوم يونس بحري. ثم جاءت بعدها الإذاعة السعودية من مكةالمكرمة التي أمر الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه بإنشائها في عام 1949 بمرسوم ملكي تضمن «ضرورة التزامها بالصدق والأمانة والواقعية، والالتزام بالموضوعية، وعدم التعرض لأحد بالشتم أو التعريض بأحد أو المدح الذي لا محل له، كما أكد ضرورة الاهتمام بالأمور الدينية وإذاعة القرآن الكريم والمواعظ الدينية». هذه الإذاعة اتخذت من جدة مقرا لها، وساهمت مصر في تنشيطها بناء على اتفاقية أبرمت بين البلدين، ومضت سنوات طويلة مذاك قبل تدشين إذاعة سعودية تبث من الرياض في عام 1964. غير أن المعروف لدى سكان الرياض هو ظهور إذاعة خاصة قبل ذلك التاريخ كانت تسمى «إذاعة طامي» نسبة إلى من أنشأها بمجهوده الفردي وهو «عبدالله بن سليمان بن عويد بن طامي»، إذ كانت هذه الإذاعة تبث بعض الأغاني والمواعظ الدينية والأخبار الاجتماعية، إضافة إلى نداءات حول التائهين من الأطفال والمواشي. بهبهاني الكويت أما الكويت فقد عرفت البث الإذاعي ابتداء على يد عائلة بهبهاني الذين كان لديهم جهاز إرسال في منزلهم فكانوا يبثون من خلاله الموسيقى والأغاني الشعبية في أواخر الأربعينات، لكن إرسالهم كان ضعيفا ولا يغطي سوى دائرة ضيقة من البلاد. وهكذا فإن اللبنة الأولى للبث الإذاعي في الكويت وضعها المرحوم مبارك الميال الذي تأثر بجهود المذيع العراقي يونس بحري فقرر استثمار معلوماته حول الأمور السلكية واللاسلكية وجهود صديقه الباكستاني محمد خان في تحويل جهاز لاسلكي بقوة نصف كيلوواط إلى جهاز يبث موجات قصيرة وطويلة بترددات تبلغ المئات من الكيلوهرتز من داخل غرف الأمن العام في قصر نايف حيث كان الميال يعمل آنذاك. صوت ساحل عمان وتعود بدايات البث الاذاعي في دولة الإمارات إلى عام 1961 حينما أطلق مواطن من عجمان يدعى «راشد عبدالله بن حمضة العليلي» إذاعة شعبية بمجهوده الشخصي ونتيجة لولعه بتصليح أجهزة الراديو الذي كان تعلمه من العمل لدى أحد الهنود في بمبي. واستمرت هذه الإذاعة البدائية ذات الإرسال المحدود إلى عام 1965 حينما تأسس ما عرف ب«إذاعة صوت ساحل عمان» من الشارقة والتي أسسها الإنجليز بمساعدة المدرس الفلسطيني «سليم عرفات البايض»، وكانت تبث من داخل قاعدتهم العسكرية بالشارقة بقوة 2 كيلوواط قبل أن يزيدوها إلى 4 كيلوواط فصارت برامجها الطربية والدينية والإخبارية والثقافية مسموعة في كل الإمارات إضافة إلى عمان. رائدات البث هذا عن تاريخ تأسيس الإذاعات في الخليج، فماذا عن أوائل من عمل بها من الأصوات النسائية؟ تقول المصادر المتوافرة إن أول مذيعة عملت في إذاعة البحرين اللاسلكية التي أنشئت في عام 1955 في عهد المغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة كانت الآنسة أمينة حسن، وأن أول مذيعة كويتية هي أمل جعفر، وأول مذيعة إماراتية هي حصة العسيلي من الشارقة التي انضمت إلى إذاعة صوت الساحل في عام 1965. أما أول صوت نسائي سعودي انطلق عبر الأثير فقد كان صوت أسماء زعزوع الشهيرة ب«ماما أسماء» التي ستكون محور حديثنا في هذه المادة. لكن قبل التعرف عليها، دعونا نتعرف على زوجها الذي كان سببا في عملها بالإذاعة السعودية من جدة في سنة 1963 وهي نفس السنة التي التحقت فيها أمينة حسن بإذاعة البحرين. فزوجها هو الأديب والكاتب الصحفي والإذاعي المعروف الأستاذ عزيز ضياء الدين زاهد مراد من أبناء المدينةالمنورة والذي اقترن بها في عام 1946 وأنجب منها في عام 1947 رائد الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية الفنان المعروف صاحب المدرسة الانطباعية الحديثة في الفن ضياء عزيز ضياء، ثم أنجب منها في عام 1952 المذيعة الشهيرة دلال عزيز ضياء، علما بأن الأخيرة تعتبر أول سعودية تدير إذاعة جدة. حي الشامية تقول السيرة الذاتية المنشورة لأسماء بنت محمد يوسف زعزوع الشهيرة ب«ماما أسماء»، بسبب قيامها بتقديم أول برنامج خاص بالأطفال من الإذاعة السعودية، إنها من مواليد حي الشامية في مكةالمكرمة في عام 1928، وأنها تعلمت القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم في «كتاب السيدة خديجة» بمسقط رأسها في حي الشامية قبل أن تنتقل إلى «كتاب الخوجة فخرية» لدراسة الحساب والتطريز وأشغال الإبرة، إذ لم تكن هناك وقتذاك مدارس نظامية كي تلتحق بها. وبعد إتمامها للعلوم والمعارف المذكورة، اعتمدت على نفسها فبدأت في تعلم مبادئ التفصيل والخياطة كما قامت في الوقت نفسه بتعليم قريناتها في حي الشامية كل ما تعلمته كي تساعدهن على اكتساب قوتهن. المنعطف المهم الأول في حياة ماما أسماء كان في أعقاب اقترانها بزوجها عزيز ضياء، الذي من بعد اشتغاله في عدة وظائف حكومية وعسكرية في دوائر الشرطة والدفاع والخطوط السعودية وتنقله ما بين تركيا والشام ولبنان ومصر للدراسة، وإجادته للغات الإنجليزية والفرنسية والتركية، اضطر في عام 1948 إلى مغادرة وطنه إلى مصر ومن ثم إلى الهند برفقة زوجته، بحثا عن الرزق. نيودلهي في نيودلهي تمكن عزيز ضياء من التعاقد مع القسم العربي في إذاعة عموم الهند للعمل بها مترجما من اللغة الإنجليزية وإليها، وقارئا ومعدا لنشرات الأخبار. وفي الوقت نفسه عرضت إذاعة عموم الهند على زوجته الشريفة أسماء العمل في وظيفة «مذيعة ربط»، بعد شيء من التدريب الذي نجحت فيه بسرعة قياسية بسبب تشجيع ومؤازرة زوجها. وآية ذلك أنها راحت تعد برامج الأطفال وتقدم برنامج «ما يطلبه المستمعون»، فضلا عن قيامها بتدريب المستجدين من المذيعات والمذيعين في تلك الإذاعة الهندية، على الرغم من أن البث الإذاعي في تلك الأيام كان بثا مباشرا لعدم توفر أجهزة التسجيل. وكان من الطبيعي في تلك الحقبة المبكرة أن ينقسم الناس حول سماع صوت سيدة من مكةالمكرمة يخترق الأثير من بلاد بعيدة، ناهيك عن اختلافهم حول سماح زوجها لها الإتيان بذلك الفعل «المنكر». وفي هذا السياق كتبت حنان بنت عبدالعزيز آل سيف في صحيفة الجزيرة السعودية (3/6/2007) قائلة: «انقسم المستمعون إلى فريقين أحدهما: يستنكر أن يسمح زوج سعودي لامرأته بظهور صوتها وسماعها على الملأ، والفريق الآخر، وهو الأكثر تطوُّراً وانفتاحاً، أرسل برقيات تأييد وتشجيع إذ شعر هذا الفريق بالفخر والاعتزاز بهذه الخطوة الجريئة، كونه أول صوت لابنة مكةالمكرمة -مهبط الوحي- إذ يظهر في إذاعة كانت من أقوى الإذاعات الموجهة للعالم العربي ولها جمهورها العريض». العودة إلى الوطن وتشاء الظروف أن يسمع الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه بقصة عزيز ضياء في الهند فيقرر جلالته في عام 1951 استدعاءه من هناك، منهيا بذلك تغربه الاضطراري. وهكذا عاد الرجل إلى أرض الوطن مصطحبا زوجته الوفية التي أنهت بدورها خدماتها لدى إذاعة عموم الهند. وسرعان ما تم تكليف عزيز ضياء بمنصب وكيل الأمن العام لشؤون المباحث ثم منصب مدير عام الجوازات والجنسية. أما ماما أسماء فالتزمت بيتها لتؤدي دور الزوجة والأم، ولم تعد إلى العمل الاذاعي إلا بعد 12 عاما من الانقطاع. وحول الجزئية الأخيرة أخبرتنا حنان بنت عبدالعزيز آل سيف (مصدر سابق) بأن الذي وقف وراء عودتها إلى المايكروفون في عام 1963 هو وزير الإعلام السعودي السابق الشيخ جميل بن إبراهيم الحجيلان بمباركة من الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله، ذلك أن الوزير الحجيلان طلب منها مشاركة فتاتين سعوديتين أخريين هما شقيقته نجدية بنت إبراهيم الحجيلان والدكتورة فاتن أمين شاكر الانضمام إلى الإذاعة بعد أن كانت الإذاعة السعودية حتى تاريخه مقتصرة على الأصوات الذكورية. ولما كانت الشريفة أسماء صاحبة خبرة سابقة في تقديم برامج الأطفال من إذاعة عموم الهند فقد تم تكليفها بإعداد برنامج مشابه من إذاعة جدة، فيما أسندت إلى نجدية الحجيلان تقديم برنامج «ركن المرأة»، وأسندت إلى فاتن شاكر مهمة تقديم برنامج «البيت السعيد». وقد قامت أسماء بالمهمة المناطة بها على أكمل وجه بدليل نجاح برنامجها وتحقيقها شهرة مدوية في أوساط الأطفال والأسر تحت إسم «ماما أسماء». التقاعد وهكذا ظلت ماما أسماء منشغلة بإعداد وتقديم برامج الأطفال الإذاعية دون توقف منذ عام 1963، فأبلت بلاء حسنا ليس في تسلية الأطفال والترفيه عنهم وتنمية قدراتهم الثقافية والمعلومامية فحسب، وإنما أيضا ساهمت في تخريج عدد كبير من المذيعات الناجحات. لكنها آثرت من العام 1972 أن تكتفي بإعداد برامج الأطفال دون تقديمها بسبب معاناتها من عارض صحي. وفي عام 1982 قررت التقاعد عن العمل نهائيا والانصراف إلى رعاية زوجها وأطفالها وأحفادها. رحلت عن محبيها وبقيت قنديلاً مشتعلاً قلنا أن زواج أسماء من الأديب عزيز ضياء أثمر عن ابنة هي دلال عزيز ضياء، وابن هو ضياء عزيز ضياء. ولأن الإنسان هو ابن بيئته ولأن البيئة التي ترعرع فيها كلاهما كانت بيئة علم وثقافة وأدب ومنظومة من التفاهم والحوار وحرية الاختيار، فقد كان من الطبيعي أن تختار دلال طريقها في الحياة بحرية تامة فاختارت أن تقتدي بوالدتها وتعمل في الإعلام المسموع، فالتحقت بالفعل بوزارة الإعلام السعودية وتدرجت في وظائفها حتى وصلت إلى وظيفة كبير مذيعي إذاعة جدة قبل أن تحصل على المرتبة الحادية عشرة في السلم الوظيفي الحكومي، وهي مرتبة كانت على الدوام حكرا على الرجال. وما بين هذا وذاك كانت دلال ضياء واحدة من أوائل السعوديات اللواتي قرأن نشرات الأخبار من إذاعة جدة وإذاعة صوت مجلس التعاون لدول الخليج العربية. وعلى المنوال نفسه اختار شقيقها ضياء طريقه في الحياة بدخول عوالم الفنون التشكيلية فبرز فيها ووضع بصماته الفنية على ما يمكن اعتباره واحدا من أهم المعالم الحضارية في المملكة العربية السعودية وهو «بوابة مكة» ما بين مدينتي مكةالمكرمةوجدة. في عام 2004 تم تكريم ماما أسماء لأول مرة من قبل الملتقى الثقافي لسيدات جدة، ثم قامت سيدات رواق مكةالمكرمة بتكريمها في عام 2006، وفي العام نفسه كانت على موعد جديد من التكريم في البحرين من قبل مهرجان الخليج التاسع للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني، حيث تسلمت شهادة تقدير من وزير الإعلام البحريني آنذاك الدكتور محمد عبدالغفار عبدالله أمام جمع كبير من الوزراء والمسؤولين والإعلاميين من سائر الأقطار الخليجية. وبهذه المناسبة أدلت بتصريح أعربت فيه عن سعادتها بالتكريم، لكنها استدركت فقالت: إن الأهم من التكريم هو الحب المصاحب له بعد سنوات طويلة من المسيرة الإعلامية، مضيفة: «إنّ المستقبل صار بيد الجيل الجديد المتسلّح بأفضل الشهادات التي تسهل له تذليل الكثير من العقبات بعد زمن كان مجرّد حصول إحدى الفتيات فيه على الشهادة التوجيهية المتوسطة حدثاً كبيراً.. إني سعيدة بهذا التكريم بين أبنائي وأحفادي وأشعر بشريط الذكريات يعود بي (58) عاماً حينما كنت أذيع برنامجاً لإذاعة دلهي بالهند لأول مرة». في شهر يناير 2014 انتقلت ماما أسماء إلى جوار ربها، ودفنت في مقبرة المعلاة بمكةالمكرمة. وهي لئن رحلت عن محبيها بجسدها فإنها باقية بينهم اسماً مضيئاً وقنديلا مشتعلاً وسيرة من العطاء والبذل ونموذجاً للمرأة المكيّة ذات السجايا العطرة والذكاء الفطري والروح الاستبسالية التي قاومت وكافحت من أجل غدٍ أفضل لشقيقاتها ومواطناتها في زمن قالت عنه الروائية والشاعرة والناقدة والصحفية السعودية أميمة الخميس في مقال لها بصحيفة الجزيرة (13/3/2007): «لم يكن الطريق أمام الرائدات مرصوفاً بالتحايا والتهليل، ولم يكن معبداً بالتصفيق والترحيب». * أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين