* مبهج جداً أن أراك بعد كل هذه السنين! * لقد اشتقت إليك كثيراً، ولكن ليس الشوق فقط ما دفعني إلى الاتصال بك ولقائك من جديد، فهناك سبب آخر. * سبب آخر؟ * لا أحب أن أذكّرك بهذا، ولكن هل تتذكّر عبارتك التي قلتها أثناء مرض ابنتك رحمها الله؟ * رحمها الله، لقد عانت كثيراً، أي عبارة تعني؟ * عندما قلت إنك تتمنى لو أنك قادر على حمل الألم عنها.. * كنت أعنيها، ولم أكن لأتردد في فعل ذلك لو أتيح.. من الممكن لأي والد أن يدرك هذا المعنى. * لم يعد الأمر مجرّد معنى يا صديقي. * ماذا تعني؟ * كانت عبارتك سبباً في تحويل مسار حياتي كلّه. * لم أفهم. * تركتك ذلك اليوم وأنا أتساءل، ما الذي يعيق حقاً نقل الألم من جسدٍ إلى آخر؟ لماذا نعجز حتى الآن عن تشارك الألم فعلياً، رغم معرفتنا الكثير عن آلية عمله في الأنسجة الحيّة؟ * أها! * خرجت وأنا أفكر في الأمر، حتى تراءى لي أنّ بإمكاني التوصّل إلى طريقة لفعل هذا.. وها أنا بعد 12 عاماً أصل إلى هذه النتيجة. * هل تعني أنّك.... * نعم، لقد اخترعت آلة نقل الألم! آلة تتيح تحويل مسار إشارات الألم العصبية عبر الأنسجة الحية لتعالَج من قبل دماغ بشري خلاف الدماغ الذي يحتويه الجسد المتألّم. * هذا مدهش، هل أنت متأكّد ممّا تقول؟ * لقد أجريت الكثير من التجارب التي بإمكانك الاطّلاع على نتائجها كما بإمكانك مشاهدة الآلة وتجربتها بنفسك. * ولماذا لم تفكّر في نقل الألم إلى أنسجة غير بشرية؟ أنسجة نباتية أو حيوانية مثلا؟ * لم يتسنّ لي هذا لأن تشتيت إشارات الألم مستحيل دون إقحام معالج عصبي له بنية الدماغ البشري نفسها. * هل من الممكن نقل الألم إلى أكثر من شخص في الوقت نفسه؟ * لا، ولكن من الممكن تناوب أشخاص عدة على حمل الألم بواسطة توصيلهم بجسد المتألم واحداً بعد الآخر. * استطيع التخمين.. بما أنك توصّلت لآلية تنقل بها الألم فأنت قادر على قياسه بالطبع! * نعم، بإمكاننا قياس وحدات الألم قبل النقل وبعده بدقة فائقة. هذا مهم كما تعلم للحفاظ على الجانب الإيجابي الوحيد من الألم، أي عمله كمؤشر لمدى تضرّر أنسجة الجسد. * هذا مذهل. * نعم، بإمكانك تصوّر ما نستطيع فعله بهذا الاختراع. لقد أصبحت فكرة مشاركة الألم ممكنة، بإمكاننا حمل الألم عن كل من نحبّ. تخيّل كيف سيؤثر على العالم ظهور جهاز كهذا. * ما بك؟ * أنا أتخيّل. * أليس الأمر مثيراً؟ * هو مثير بالفعل، ولكنه مخيفٌ أيضاً. * مخيف... كيف؟ * هل تتوقع أن الناس سيستخدمون جهازك بالشكل الذي افترضته فقط؟ لا يا صاحبي سيتصرف الناس مع جهازك بشكل ربما لم يخطر ببالك إطلاقاً. * مثل ماذا؟ * مثل أن تُخلق مهنة جديدة؟ غالبا سيمتهن الآلاف من البشر مهنة (حاملي الألم) إذ يتوجه الواحد منهم إلى أقرب جهاز من أجهزتك ليعرض حمل الألم عمّن يدفع! * ما وجه الخطورة في هذا؟ * سيساعد هذا الاستغلاليّين من الأثرياء كي يساهموا في توسعة هذه الطبقة من عارضي الخدمة. لن يتحمّل ثريّ بعد جهازك هذا تحمل مقدار من الألم إذا كان بإمكانه الحصول على حامل له، هذا لن يكلّفه الكثير في ظل الوفرة التي يشهدها العالم من الفقراء. سيكون هذا بشعاً للغاية. * لماذا ترى الأمر بهذه البشاعة؟ * نحن نعاني اليوم من جبروت الأقوياء رغم قابليتهم لخوض تجربة الألم كغيرهم من البشر، أتساءل ماذا سيفعلون بالكوكب وقد تخلصوا أيضاً من هذه الخصلة التي تجمعهم مع الآخرين.! ثمّ كيف من الممكن أن يساهم في بناء العالم من يتعرض للألم بشكل روتيني كمهنة له. سيزيد جهازك الفجوة بين البشر وسيفقدهم آخر لغة من الممكن أن يتواصلوا من خلالها. * لغة الألم؟ * نعم.. لغة الألم. * أنت تتجاهل طريقة تطور الاختراعات وكيف تنخفض تكلفتها مع شيوع استعمالها، سيصبح الجهاز متاحاً للجميع في يوم ما، وسيخفّض هذا من استغلال المسحوقين الّذي تزعم! * قد يصحّ ما تقول عندما نتكلم عن الحواسيب وأجهزة الهاتف الجوّال، لأن في انخفاض تكلفتها وشيوع استعمالها روافد أكبر لسادة هذا العالم، ولكن هل تعلم مثلاً أنّ أوّل وحدة غسل كلى قد اخترعت منذ مئة عام تقريباً؟ * من المفترض أن نرى اليوم عشر وحدات لغسل الكلى في كل بلدة في العالم! * لماذا لم يحدث هذا؟ * حيث تكون مصلحة أولئك السادة في تقليص الانتشار يكون التقليص، وحيث تكون الجدوى في التوسّع يكون التوسّع. هكذا تجري الأمور ولا أظن أن مثل هذا قد يتغير قريباً. * مؤسف أني لم أنظر إلى الأمر على هذا النحو رغم إمضائي 12 عاماً من العمل على هذا الاختراع. * لا عليك، لم يكن أحدٌ من العلماء الذين نشطوا في صنع القنبلة النووية مدركاً بشاعة ما يفعله على كلّ حال! ________ * كاتب سعودي