لا أعرف عنها شيئا، لم أقرأ لها حرفا، لم أر صورتها أبدا قبل الآن وهي تغطي كل شاشات العالم وصحفه. سفيتلافا ألكسيفيتش الفائزة بجائزة نوبل لا يعرفها تقريبا أحد في العالم العربي، ولا نص لها مترجم للغة العربية، لا أعرف خطأ من؟ هل هو خطأ فردي أتحمل مسؤوليته ككاتب، أم هو خطأ ثقافة نسيت أن تواكب عصرها وأن تستوعب ممكنات زمانها؟ خطأ من؟ أن تبقى هذه الكاتبة التي اختطفت الجائزة من هاروكي موراكامي الياباني، ونيوثي واثيونج النّرويجي، والكاتبة الأمريكيّة جويس كارول أوتس، والرّوائي الأمريكي فيليب روث، والشاعر الكوري الجنوبي كو أون، والكاتب النمساوى بيتر هانديك، والكاتب الأيرلندى جون بانفيل، وغيرهم، أن تبقى غفلا في الثقافة العربيّة فهذا دليل لا يقبل الدّحض على أنّ ثقافتنا لا تزال خارج الفعل الخلاق وبعيدة عن أسئلة العصر؟ سفيتلافا ألكسيفيتش التي يقول تقرير الفوز أن كتاباتها متعددة الأصوات تمثل معلما للمعاناة والشجاعة في زماننا. خصيصتان هامتان جدا، تعدد الأصوات في وجه واحدية الصوت في السرد التقليدي وفي المجتمعات التي تنقاد وتتبع وتسلم، البوليفونية في وجه العزف الفردي، التعدد في وجه الفردانية، ثم الشجاعة في نقل المعاناة البشرية، الشجاعة التي تعني الوقوف في وجه العالم القبيح وفي وجه الشر. سنواتها السبعة والستون كلها كانت نحتا في اللغة لعالم مر تدريجيا وبصفاقة إلى أقصى مراحل البؤس، حيث انقرضت مثل، وفسدت قيم، وعم الفساد. وهي في نصها، نصها الذي يتسم بالواقعية والطابع الصحفي بحكم عملها، استطاعت ليس فقط أن تعبر عن المعاناة، بل أن تلج أكثر الموضوعات خطورة مثل الحروب. وما عناوين كتبها مثل «أصواب من تشرنوبيل» أو «أولاد زنكي» أو «وجه غير أنثوي للحرب» إلا الدليل على عمق إحساسها بمأساوية الفعل البشري. تكتب رواياتها باللغة الروسية، ورواياتها الآن موجودة في كل اللغات وخصوصا الأنجليزية، تم إحصاء عشرين لغة منها، باستثناء العربية طبعا، كما أن الروائية من أكبر المنتقدين للنظام الروسي، وهي متواجدة بقوة في عدد من الثقافات وجودا تفاعليا أهلها قبل الفوز بنوبل إلى الفوز بأبرز الجوائر الأوروبية. تكتب بعقل فيلسوف وقلم صحفي، تقول عن نفسها: «كنت أبحث عن جنس أدبي يسمح لي بمقاربة رؤيتي للحياة بأفضل ما يمكن. تاليا، اخترت أن أكتب أصوات الناس واعترافاتهم». عاشت مع والد عسكري وأم أوكرانية، مولعة هي بالتفاصيل، تحتفظ بكل شيء مهما كان بسيطا. وخصوصا الأحاسيس المرتبطة بالمآسي، ولعل ما نجده في كتابها «أصوات من تشرنوبيل» من قدرة على الجمع والتقصي وسبر الأغوار، انطلاقا من التاريخ المحكي لكارثة تشرنوبيل. إذ جمعت أكثر من مئة شهادة لمواطني شمالي العاصمة كييف حول المفاعل النووي. فجمعت بين الواقعية الصادمة وهي متلبسة بيقظة العاطفة والمشاعر وبين طبيعة الخطاب الصحفي الذي يركز على النافع، وأضافت هي لمسة الفن الروائي ليصبح كتابها شهادة أدبية عن عصر وليس فقط كتابا عن حادثة. استطاعت الوقوف بقوة ضد المدنية المنزوعة القيم، ودافعت عن البسطاء الذين حرقتهم المدنية الكاذبة ووجهها الصناعي القبيح. الكتاب لم يتحدث عن الصدمة بعد صور ما بعد الصدمة، صور الفقد، صور الآلام التي هزت القلوب، وفتح في الجدار بقعة ضوء. يتضمن تقرير الجائزة أيضا وبوضوح أن الفوز مستحق لكون الكاتبة امرأة أولا، وثانيا لأن الجائزة اختارت أن تكافئ كاتبة ملتزمة سياسيا، لكن بطريقة لا تثير الجدل. السببان كلاهما في الحقيقة مهمان إذا اعتبرنا أنها مواطنة بيلاروسية ومقروءة في العالم الغربي وصوتها مسموع بقوة. هذا الصوت الذي نأى عن الفعل السياسي المباشر، واهتم بالتفاصيل وبرؤية العالم من قريب، عبر سماعه ولمسه والتماهي معه، فوزها تتويج حقيقي لمهنة جليلة اعتدنا دائما أن نعتبرها تهمة في الميدان الأدبي وهي مهنة الصحافة. لقد فازت سفيتلافا لأنها أمسكت بيديها جمر العالم بلغة قريبة من جمر العالم، فهي في تحقيقاتها تحرص على كشف الغموض وتحب الاعترافات وتجمع أدلتها وتوثق لعملها الصحفي ولقصصها بأناة وصبر. ربما لذلك السبب ارتبطت ارتباطا وثيقا بالحياة في بعدها الواقعي، وعاشرت شخوصا من الحياة واستمعت إلى أثر سحبات معاطف الليل على أجسادهم الباردة، من الكوى تطل على معاناة أبطالها الذين لم يكونوا مفارقين للواقع، تصورهم في خلال أشد الوضعيات ألما، وكتبها المذكورة سابقا ارتبطت كلها بموضوع الحرب في الاتحاد السوفياتي، لم تكتب ضد الحرب، بل كتبت عن أثر الحروب على البشر، صورت البشاعة والحيوانية وزيف القيم وازدواجية المعايير. هذه كاتبة حرمنا منها لسنوات طويلة بسبب التزامها ربما، وربما بسبب القائمين على أمور الترجمة الذين لا يهتمون بغير المشهورين أو فاقدي الحقوق بفعل التقادم. في آخر كلمتي هذه أرسلت لي الصديقة المترجمة السورية أماني لازار نصين مترجمين للعربية من كتاب أصوات من تشرنوبل للكاتبة الفائزة بنوبل وهما نصان نخص بهما قراء «عكاظ»، وهما أول نصين في العربية لهذه الكاتبة حسب علمنا: مونولوج عن حياة كاملة مدونة على الأبواب من كتاب أصوات من تشرنوبل سفيتلانا ألكسييفيتش ترجمته عن الأنجليزية: أماني لازار ........ أريد أن أدلي بشهادة. حدث هذا منذ عشر سنوات، وهو يتكرر يوميا، عشنا في بلدة بربيات. في تلك البلدة، أنا لست كاتبا. لن أكون قادرا على الوصف. عقلي ليس مؤهلا لفهمه. ولا شهادتي الجامعية. إليك القصة: شخص عادي. شخص متواضع. أنت مثل أي شخص آخر، تذهبين إلى العمل، تعودين من العمل. تنالين مرتبا متوسطا. تحصلين مرة في السنة على إجازة. أنت شخص عادي! ثم ذات يوم تتحولين فجأة إلى شخص من تشرنوبل. إلى حيوان، شيء يهتم الجميع لأمره، وأمر لا يعرف أحد عنه شيئا. تريدين أن تكوني مثل الجميع، والآن ليس بوسعك ذلك. ينظر الناس إليك نظرة مختلفة. يسألونك: هل كان مخيفا؟ كيف احترقت المحطة؟ ماذا رأيت؟ وكما تعلمين، هل يمكن أن تنجب أطفالا؟ هل هجرتك زوجتك؟ تحولنا في البداية جميعا إلى حيوانات. الكلمة ذاتها «تشرنوبل» تشبه لافتة. الجميع يديرون رؤوسهم لينظروا إليك. إنه من هناك. تلك كانت البداية. لم نفقد بلدة، لقد فقدنا حياتنا برمتها. غادرنا في اليوم الثالث. كان المفاعل يحترق. أتذكر قول أحد أصدقائي، «إنها رائحة مفاعل». كانت رائحة لا تصدق. لكن كانت الصحف قد كتبت عن ذلك. لقد حولت تشرنوبل إلى بيت للرعب، ولو أنهم في الحقيقة حولوه إلى فيلم رسوم متحركة. سأتكلم فقط عما يخصني حقا، عن حقيقتي كان على الشكل التالي: أعلنوا عبر الإذاعة أنه لا يمكنك أن تصطحب قططك. لذا وضعنا القطة في الحقيبة. لكنها لم ترغب بالذهاب، وخرجت منها. وخدشت الجميع. لا يمكنك أن تأخذ حاجياتك! لا بأس، لن آخذ جميع حاجياتي، سآخذ فقط غرضا واحدا. فقط واحدا! أحتاج أن أخلع باب الشقة وآخذه معي. لا يمكنني أن أترك الباب. سأغطي المدخل ببعض الألواح. بابنا، إنه حرزنا، إنه تذكار عائلي. أبي تمدد على هذا الباب. لا أعرف أصل هذا التقليد، فهو غير متبع في كل مكان، لكن أمي قالت لي أنه يجب أن يمدد الفقيد على باب بيته. يمدد هناك إلى أن يجلبوا النعش. جلست قرب والدي طوال الليل، ممددا على بابه. كان المنزل مفتوحا. طوال الليل. كانت نقوش صغيرة محفورة على هذا الباب، نقوش صغيرة تمثل مراحل نموي. فقد أشارت هذه النقوش إلى إلى الصف الأول، الصف الثاني، السابع، قبل الجندية، وبالقرب منها.. كيف كبر ابني وابنتي. حياتي كلها مدونة على هذا الباب. كيف يفترض بي أن أتركها؟ طلبت من جاري فقد كان يملك سيارة: «ساعدني». أومأ مقربا رأسه، أنت لست مصيبا تماما، صحيح؟ لكني أخذت ذلك الباب معي. ليلا. على دراجة نارية. عبر الغابة. بعد مرور عامين، عندما كانت شقتنا قد سلبت وأفرغت. كانت الشرطة تطاردني. «سنطلق النار! سنطلق النار!» اعتقدوا أني لص. هكذا سرقت باب بيتنا. أخذت ابنتي وزوجتي إلى المستشفى. كان هناك بقع سوداء في كافة أنحاء أجسادهن. قد تظهر هذه البقع، ثم تختفي. حجمها يقارب حجم قطعة نقدية بقيمة خمسة كوبيكات. لكنها غير مؤلمة. أجروا بعض الفحوصات لهن. طلبت النتائج. «هي ليست لك» قالوا. قلت، «إذن لمن؟» كان الجميع يقولون حينها: «سوف نموت، سوف نموت. بحلول عام 2000، لن يبقى أي بيلاروسي». كانت ابنتي في السادسة من عمرها. همست في أذني وأنا أضعها في السرير: «بابا، أريد أن أحيا، أنا لا أزال صغيرة». وكنت أعتقد أنها لا تفهم شيئا. هل يمكنك تصور فتيات في سن السابعة حليقات صلعاوات في غرفة واحدة؟ كان هناك سبع فتيات في غرفة المستشفى... لكن يكفي! هذه هي! عندما أتحدث عن الأمر أشعر بأنني أخونهم، قلبي يحدثني بذلك. لأني أحتاج إلى وصف الأمر كما لو أني غريب. عادت زوجتي من المستشفى إلى البيت. لم تستطع تحمل الأمر. «سيكون من الأفضل لها أن تموت بدل أن تتعذب هكذا. أو من الأفضل أن أموت أنا، فلا يتوجب علي رؤيتها بعد الآن». لا، يكفي! هذا كل شيء! لم يعد بإمكاني. لا.. وضعناها على الباب... على الباب الذي وضع أبي عليه. إلى أن جلبوا نعشا صغيرا. كان صغيرا مثل صندوق دمية كبيرة أود أن أدلي بشهادة: توفيت ابنتي بسبب تشرنوبل. ويريدون منا أن ننسى. ......... مونولوج عن أغنية دون كلمات من كتاب أصوات من تشرنوبل سفيتلانا ألكسييفيتش ترجمته عن الإنجليزية: أماني لازار سأجثو على ركبتي وأتضرع إليك-أرجوك، جدي آنا سوشكو. كانت تسكن في قريتنا. في كوزوشكي. اسمها آنا سوشكو. سأصف لك مظهرها، وستدونين أنت ما أقول. كان لها حدبة، بكماء منذ الولادة. كانت تعيش بمفردها. في الستين من عمرها. أثناء التهجير وضعوها في سيارة إسعاف وقادوها إلى مكان ما. لم تكن تتقن القراءة، لذا لم نتلق منها أي رسائل. تم وضع الأشخاص الوحيدين والمرضى في أماكن خاصة. أخفوهم. لكن لا أحد يعلم أين. دوني هذا. شعر جميع سكان القرية بالأسف عليها. لقد اعتنينا بها كما لو أنها فتاة صغيرة. أحدهم يقطع الحطب من أجلها، وآخر يجلب الحليب. واحد قد يجلس في منزلها مساء يشعل الموقد. عشنا جميعا سنتين في أماكن أخرى، ثم عدنا إلى منازلنا. قولي لها أن منزلها لا يزال موجودا. السطح، والنوافذ. بوسعنا أن نصلح كل ما كسر أو سلب. لو تخبرينا فقط عن مكان إقامتها، أين تعيش وأين تعاني، سنذهب ونعيدها. كي لا تموت من الأسى. أتوسل إليك. روح بريئة تعاني بين الغرباء. نسيت، هناك أمر آخر بشأنها. عندما كان يؤلمها شيء كانت تغني هذه الأغنية. لا كلمات فيها، صوتها وحسب. فليس بوسعها الكلام. عندما يؤلمها شيء، كانت تغني فقط: آ-آ-آ. سماعها يثير فيك الشعور بالأسى. الراوي في هذين العملين صوت أناس حقيقيين عصف الموت بأفئدتهم، وأنطقهم الألم الحاد، وعملت مدية الفقد في ذواتهم عملها، فأخبروا الصحفية المدربة بما يجيش في قلوبهم، ولأنها صحفية أولا فإنها سجلت ما سمعت وهذا مهم، ولكنها سجلت أيضا ما رأت، وكتبت بسودائية كبيرة لتدين ما حصل إدانة جمالية تبقى على وجه الدهر دليل رفض لعنف البشر وفساد الآلة وفقدان القيم الإنسانية. وبأسلوبها الرقيق مثل شفرة الحلاقة، والحاد والسريع كمقصلة استطاعت النظر إلى العالم من فوق، وقدمت أبطالها بلغتهم وبتقطعات لهجاتهم، بتنفسهم وحشرجاتهم مركزة على بواطنهم. لهذا حين تقرأ شهادات الناس تتذكر إنسانيتك التي نسيتها، ودمعك الذي تجمد، وقلبك الذي يتأكله حزن لا تعلم مداه. سفيتلانا نص غفل في ثقافتنا، لكنه نص سيفتح لنا نافذة على الرواية وهي تقبس من ضوء الصحافة مثلما استعارت من قبل الفلسفة ومن قبلها التاريخ والفنون بأنواعها. وهذا هو في رأيي درس نوبل هذه السنة، نحن بحاجة إلى النساء الكاتبات، لأن الرجال دمروا العالم، نحن بحاجة إلى الصحافيات تحديدا لأن الشعراء والروائيين أثقلوا الرواية بحذلقاتهم، نحن بحاجة إلى الالتزام لأن القرف والملل وقلة الهمة والمتاجرين بضمير العالم قد أفسدوا عالمنا بنصوصهم الكريهة، نحن بحاجة إلى صنف الرافضين الكبار لعنف هذا العالم وشروره.