جزى الله منتدى النهضة والتواصل الحضاري خيراً، بدعوته للشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية في تونس الذي حاضرنا بقاعة الشهيد الزبير نهار الخميس «10/3»، فأمتع الحاضرين الذين ضاقت بهم القاعة أيما متعة، بدفاعه الصادق عن الحرية والديمقراطية، وبتماسك منطقه وقوة حجته وهو يتحدث بلسان فصيح مبين عن: الثورة التونسية وآفاق المستقبل. ولماذا لا يفعل ذلك وهو الذي قضى أكثر من عشرين سنة مع كثير من قيادات حزبه بين السجن والملاحقة الأمنية والتشريد في المنافي على يد جلاوذة نظام بن علي القمعي المستبد؟ وأحسب أن أكثر الحضور استمتاعاً بمحاضرة الشيخ هم شباب الإسلاميين الذين يشهدون واقعاً بائساً للحرية والديمقراطية وللعدل والطهارة في بلادهم، وقد كانوا يظنون بنظام الإسلام غير ذلك. أما بالنسبة لي فقد اختلطت مشاعر المتعة الذهنية بالألم والحسرة الوجدانية، لما أثارته في النفس من شجون عميقة قديمة عندما كان قادة الحركة الإسلامية في السودان يقولون مثل هذا الحديث المبهر عن الحرية والديمقراطية، وعن حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية في الستينيات من القرن الماضي من على منابر الجامعات، ونجلس مستمعين كأنما على رؤوسنا الطير.
ويثير الحديث الشجي حماستنا الدافقة، ويرفع من سقف طموحاتنا، ويزيد قناعتنا بأننا نمتلك الحل الحضاري لكل مشكلات السودان وبناء نهضته على أرقى مستوى، وليس بيننا وبين ذلك المشروع النهضوي الكبير إلا شرذمة قليلة من اليساريين والعلمانيين هم أعداء للدين قبل أن يكونوا أعداء لتنظيمنا السياسي، ثم هذه الأحزاب الطائفية المتخلفة التي لن تبقى طويلاً على قيد الحياة، ونحن وارثوها طال الزمن أو قصر، وأن المستقبل لنا لا محالة..!!
لم يخطر ببالنا طرفة عين، أننا عندما نحكم قبضتنا على مقاليد الدولة والمجتمع، سنضرب أسوأ مثل لحكم ديمقراطي أو عسكري شهده السودان علمانياً كان أم إسلامياً. فقد حدث في عهد الإنقاذ ما لم يحدث في غيرها من الكبائر: حارب أبناء الشمال لأول مرة مع حركة تمرد جنوبية يسارية كراهية في حكم الإنقاذ، وانقلبت الحرب ضد التمرد من حرب وطنية تحفظ وحدة السودان إلى حرب دينية جهادية ضد الكفار في الجنوب أدت إلى مقتل أكثر من عشرين ألفاً من شباب الإسلاميين، وألبت علينا الحرب الدينية عداء دول الجوار والدول الغربية الكبرى، وانتهى بنا الأمر إلى انفصال الجنوب الذي ظل موحداً مع الشمال أكثر من «150» سنة، وقام تمرد آخر في كل من دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق وشرق السودان، وارتكبت الحكومة الكثير من الخطايا والموبقات ضد أهل دارفور، مما جر عليها قضايا جنائية دولية طالت حتى رئيس الجمهورية وبعض كبار المسؤولين، واستطاع أحد فصائل تمرد دارفور أن يصل مدججاً بالسلاح إلى قلب العاصمة المثلثة دون أن يتعرض له جيش البلاد المكلف بحراستها وتأمينها، وتبنت سياسة خارجية خرقاء ضد دول الجوار العربي والإفريقي وصلت إلى حد دعم جماعات العنف والاغتيال السياسي، مما أدى إلى عداء مبرر من تلك الدول، وإلى عقوبات دبلوماسية واقتصادية دولية ضد السودان، واستشرى الشعور بالعرقية والقبلية في كل أنحاء السودان بصورة غير مسبوقة، وسعت الحكومة الإسلامية إلى تسييس الخدمة المدنية والقوات النظامية والقضاء والمؤسسات الأكاديمية تحت شعار التمكين، بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ السودان الحديث، وبلغ الفساد المالي والأخلاقي مداه في ظل حكومة الإنقاذ بممارسات لم نسمع بها من قبل في العهود العسكرية السابقة.
ذاك ما كان في الشأن العام الذي يهم كل أهل السودان، ولم يكن شأن الحركة الإسلامية نفسها التي حكموا باسمها أحسن حالاً، فقد فقدت طهارتها الثورية، وكسدت شعاراتها الإسلامية حتى ليستحي المرء من ترديدها أمام الناس، وحلت أجهزتها المنتخبة من قبل قيادتها، وانشقت صفوفها بسبب الصراع العاري على السلطة، ثم جمدت أنشطتها الفكرية والدعوية والتربوية عن قصد بواسطة حكومتها الإسلامية، حتى لا تحشر أنفها في غير ما يخصها من شؤون الحكم، مما فتح المجال واسعاً أمام الجماعات الصوفية والسلفية أن تخترق الجامعات والمعاهد العليا التي كانت شبه محتكرة لفكر الحركة الإسلامية دون كل التيارات الأخرى. واستولت قلة قليلة من الأفراد المتنفذين من كهول الحركة الإسلامية بنفوذ السلطة على مقاليد الدولة وشؤون الحزب الحاكم الذي أصبح خاوياً على عروشه وعلى الحركة الإسلامية المجمدة.
وأصبحت معظم كوادر الحركة الإسلامية الفاعلة موظفة للدولة أو منتفعة منها بصورة أو أخرى، ومن ثم تلزم الصمت حيال كل الأخطاء المرتكبة في حق الجماعة أو البلد. وتلك لعمري نهاية محزنة مؤلمة لحركة إسلامية واعدة كانت تتقدم بخطى قوية ثابتة في ظل النظام الديمقراطي التعددي على هشاشته، وكانت تظن أنها ستأتي يوماً بما لم يأتِ به الأوائل، وأنها ستقدم نموذجاً للحكم الإسلامي يتفوق على كل ما عرفه العالم الإسلامي من نماذج في السعودية أو إيران أو باكستان. ولعل الغرور والتعجل للسلطة والاستعانة بالعسكر الذين ما دخلوا باب السياسة إلا أفسدوها وأفسدوا معها مؤسستهم العسكرية العريقة، كانت تلك هي الأسباب من وراء ذلك الفشل الذريع في إدارة شؤون البلاد. ولولا أني عشت بين أولئك القوم أكثر من ثلاثة عقود لصدقت ما يقوله أهل اليسار إن الحركة الإسلامية ما رفعت شعارات الإسلام السياسية إلا بقصد استغلالها لتحقيق مآرب مادية دنيوية شخصية وحزبية لا صلة لها بالدين. ولنعد بعد هذا الاسترسال المقصود إلى محاضرة الشيخ الغنوشي التي أثارت فينا كل تلك الكوامن والشجون المكبوتة.
ويفسر الشيخ الغنوشي الثورة التونسية بأنها نتيجة لهوة ضخمة بين الحاكم والمحكومين كل منهما يعيش في عالم مختلف، وأن الكبت والقمع والظلم واحتكار السلطة والثروة والإعلام كانت هي أدوات النظام في البقاء على كراسي الحكم. وأعجبني قوله إن الاستبداد والفساد لا دين لهما ولا أيديولوجية، ويمكن ممارستهما تحت مظلة أي دين أو أيديولوجية بما في ذلك الإسلام! وأفرغ بن علي مؤسسات الدولة من محتواها وصار حكماً فردياً وعائلياً متسلطاً، فالحزب الذي يقال إن له ثلاثة ملايين عضو «سكان تونس حوالي عشرة ملايين» لا حول له ولا قوة، ولم يخرج منهم أحد للدفاع عن بن علي حين أزفت ساعة الرحيل، وكذلك دجنت النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني. وتصدى بن علي لما سماه تجفيف منابع الإرهاب والأصولية خدمة للدول الغربية، وهو في الحقيقة حرب على الإسلام لأنه مس فروض الدين التعبدية التي لا صلة لها بالحكم أو السياسة، وقطع شوطاً في تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وتهكم الغنوشي على بن علي بأن كل فروض الطاعة التي قدمها للغرب لم تجده شيئاً حين هرب من تونس ليلاً يبحث له عن مأوى في بلد أوروبي فلم يجد في حين وجدنا نحن الإسلاميين الذين استعملنا فزاعةً للغرب من يمنحنا حق اللجوء السياسي لعدة سنوات. وقال الغنوشي بصراحة إن الثورة التونسية لم يصنعها حزب ولا زعيم ولا شعارات أيديولوجية، إنها ثورة شعب انسدت أمامه أفق الإصلاح فلم يجد بداً من الثورة الشاملة على النظام القائم. وقال إن برنامج حركة النهضة الأساسي هو العمل مع الآخرين لتطوير أركان التحول الديمقراطي الذي يفسح المجال للتداول السلمي للسلطة؛ وقد أتاحت الأوضاع الدولية الفرصة واسعة أمام الشعوب العربية لإسقاط كل المستبدين من عملاء الغرب الذين أصبحوا يعيشون في حالة هلع وفزع. وتوقع أن يصل الشعب الليبي لأهدافه قريباً بعد أن أضاع القذافي كل فرصة للإصلاح المتدرج.
وفي إجابة الشيخ على بعض الأسئلة الساخنة التي تهم أهل السودان، قال: إن الديمقراطية لا تتعارض مع الدين، لأنها آلية لاتخاذ القرار حول الشأن العام بالتشاور وهو مبدأ إسلامي، ولاختيار الحكام عن رضاء وقبول من الناس، وهي بذلك تنسجم مع تعاليم الإسلام أكثر من أنظمة الحكم الأخرى؛ وأن التظاهر الجماهيري نوع من التعبير عن الرأي، وهو أمر مشروع ديناً طالما ابتعد عن التخريب والعنف، وأن السكون الشعبي في دولة لا يعني الأمن والسلامة للنظام، فقد يكون البركان يغلي من تحت ولم يبلغ السطح بعد، فالسكون لا يعني الموت، والأمن الحقيقي يتمثل في إقامة العدل بين الناس، وقال إن الضمان الحقيقي لعدم الانقلاب على الحريات لا يكمن في الدساتير والقوانين، وإنما يستند إلى وعي الشعوب بحقوقها السياسية في الحرية والمساواة والمشاركة، ولا بد من ترويض النفس على قبول التداول السلمي للسلطة. وقد أدار الندوة بنجاح الدكتور عصام أحمد البشير مدير منتدى النهضة والتواصل الحضاري بحصافته المعهودة.