بقلم أ.منيف الضوِّي العام 2014 بوسطن/ أمريكا، الطابق العشرين، الطفل لوكاس غريب الأطوار، متبلد الإحساس، تعابير وجهه كصنم، ملامحه صامته، هو نطفة وضعت غصباً في رحم العالمة لونا، التي كانت تتخوف من هذا الصبي وتتوجس منه حذراً وقدراً، نظراته ترعبها، حياتها النفسية غير مستقرة بسببه، كانت تتناول المهدئات، وذات يوم حينما رأت لوكاس يحطم جمجمة كلبه ميسي، وينظر إليها بارتياب، قررت التخلص من حياتها ورمت نفسها من بلكونة شقتها منتحرة وكان لوكاس يعد لها حتى ارتطمت بالأرضت وغرقت في دمها، عاش لوكاس عند زوجة أبيه سوا اليابانية، والتي كانت لا ترغب في وجوده، ولكنها تحالفت معه لاحقاً حينما رأتاهتمامه بابنتها إيما، وحينما كبر لوكاس وأصبح شاباً، قلّده والتر الأمريكي (والده بالتبني) لقب أصغر الباحثين، واحتفى به في مركز أبحاثه المريب، وبعد حينماتت سوا، ونشأت علاقة حميمية بين لوكاس وإيما ابنة والتر والتي عدته شقيقها بالتبني، وتسير الأحداث بشكل مفاجئ يتكشّف عن نوايا العالم والتر التي لاتعترف بالإنسانية، وتهدف إلى السيطرة على العالم، ولوكاس ذالك المسخ يرمز إلى العلم الجديد الذي يلعن العلماء، ويلعن الطوفان الذي سيغرق العالم دون رحمة، لذلك هداه صراع الخير والشر في داخله أن يتخذ من رمزية سفينة نوح وسيلة روحية لإنقاذ البشرية من طغيان المادة وطوفان حب السيطرة ، لقد ترشّح والتر رئيساً للولايات بفضل التلاعب بنتائج الانتخابات التي يجيدها لوكاس ، وأراد والتر مزيداً من السيطرة على العالم، وعمل على إذكاء الحرب بينه وبين دول الإتحاد ليبقى العالم رهيناً لقطب واحد، يتحكم فيه والتر، ويجعله يغني بنوتة موسيقية من تأليفه فقط، عنوانها أنا ومن بعدي الطوفان. كان والتر يُمثّل العلم المادي البحت بكل جشعه، وكانت إيما تمثل الجانب الروحي الذي يرفض كل قسوة العالم المادي الذي يمثله والدها، وكان لوكاس يقف على طرفي نقيض تتنازعه قوى الخير تارة وقوى الشر تارات، ولكنه يصغي لصوت الضمير الذي لم يكف عن الضجيج في رأسه، لقد حاول والتر أن يمسخ إيما فهي ليست ابنته هي كلوكاس، وعرضها لحادث أفقدها ذاكرتها، ولكنها ما إن رأت لوكاس الذي غّير اسمه لهانا، حتى أبت الذاكرة النسيان، وقاومت ذكرياتها كغريق يقاوم أمواج البحر، لوكاس اتخذ من رمزية سفينة نوح شعاره ووسيلته الحاسوبية لاختراق حسابات الأغنياء، وقام بإيداع الملايين في حسابات الفقراء وتظهر مرة أخرى رمزية روبن هود كمثال للجانب الروحي الذي تزخر بأمثلته الرواية، أصبح والتر رئيساً للولايات، واشتعلت الحروب وظهرت سفينة نوح لتدمر الكتلتين الولايات والاتحاد على حد سواء، وحينما حانت لحظة الصفر، أبى لوكاس الذي معناه النور، أن يكون عذاباً للكون الذي هو معنى اسم إيما، فالمرأة كون والرجل نور هذا الكون، وكلاهما مسخ لا قيمة له دون الآخر، فقرر لوكاس أن ينحاز للخير ويرفض مادية العلم المحض والشر الذي تماهى معه ومع والتر حتى ناداه صوت الضمير، ففجر مركز الأبحاث عليه وعلى والتر، ليعلن أن البقاء للخير وللروح والأخلاق، ولكن معركة العلم والأخلاق لن تنتهي إلا بانتهاء البشرية. وهكذا انتصرت قوى الخير والأخلاق وعاشت إيما حياتها دون لوكاس الذي ارتبطت به عاطفياً وظلت صورته تلاحقها حيثما حلت. وفي رواية المسخ استلهمت الكاتبة المبدعة ولاء أبو غندر الموروث الإنساني بامتياز، وانحازت للبشرية دون قيود أيديولوجية أو دينية، حيث استهلت روايتها بآية من القرآن الكريم من سورة البقرة "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، كما اتكأت على نصوص من الإنجيل (الإصحاح7 سفر الجامعة)، واستشهدت بفقرات من كتاب التاو تي أو صراط الأبدال (كتاب الصين المقدس)، واستلهمت مدلولوية سفينة نوح في التراث الديني في الأديان السماوية الثلاثة لتشكل فكرة الإنقاذ للبشرية وللإنسان بشقيه الروحي والمادي، والاحتجاج المبطن على سفك الدماء والشخصية المادية البشعة يكمن في رمزية توظيف شخصية الدكتور جيكل في رواية الأديب الاسكتنلندي روبرت لويس ستيفسون، والتي تحمل جانبين أحدهما خيّر والآخر شرير، وإسقاطها على دور العالم والتر الذي يتخذ من العلم وحده إلهاً له، وأيضاً توظيف رمزية الروائي كافكا وروايته المسخ؛ فالفوضى لن تنتهي مادامت معركة العلم والأخلاق قائمة، وتستعرض الرواية بحسب الأحداث العديد من الرموز الأدبية التي تخدم السياق الدرامي سواء في الأماكن الأثرية كأحجار ستونهنج ، وتماثيل جزر الفصح العملاقة (جزيرة القيامة) وأهرامات مصر، بما تحمله من غموض ودلالات تاريخية تعكس ركض الإنسان الذي لا يتوقف في الحياة بحثاً عن ذاته، أو الشخصيات الأدبية مثل شخصية توم سوير في رواية الأديب الأمريكي مارك توين، والتي تتحدث عن صبي يكبر في مدينة خيالية، ثم يظهر جحيم دانتي، وشخصية هاملت وماكبث في مسرحة شكسبير وهو قائد اسكتلندي اغتال ملكه دنكن ليجلس على عرش اسكتلندا، وتظهر كذلك جنة روسو والتي تظهر انحيازه للعدل وللبشرية جمعاء وحقها فيالحرية، ثم يستدعي السياق الدرامي للأحداث استحضار رموز ذات دلالات فنية وذات بعد فكري وفلسفي مثل شخصية الشيطان في حكاية فاوست الألماني؛ حيث أن الدكتور فاوست لم يحقق نجاحاً في حياته فيبرم عقداً مع الشيطان يسلم له روحه مقابل الحصول على المعرفة المطلقة واللذة الدنيوية، تماماً كما يفعل والتر، ويظهر أيضاً ابادون (ملك الموت) وهو من وحي الموروث اليهودي والمسيحي، وما يحمله من دلالات الموت والدمار والانتقام، وعند الحديث عن المال والبنوكفي الرواية وظهور الهاكرز المدعو سفينة نوح استدعت الكاتبة رمزية دون كيشوت للأديب الأسباني ميجل وتداعيات الحبس الملكي في أشبيلية بعد إفلاس البنك الذي وضع فيه الودائع، كما تظهر شخصية تاجر البندقة لشكسبير بمدلولاتها الرمزية عن الثروة والحب والعزلة والرغبة في الانتقام، وتشير رمزية فرانكنشتاين في رواية (الكاتبة الإنجليزية ماري شيلي) إلى عالم شاب يخلق مخلوقاً غريباً في تجربة علمية، ويظهر لوكاس أو هانا مرة أخرى. ولإضفاء جماليات أكثر على الصورة السردية في الرواية وظّفت الكاتبة أيضاً العديد من رمزيات اللوحات الفنية العالمية، مثل لوحة الموناليزا، ولوحة بياتر تيشاتشيني الحزينة للإيطالي غويدوريني، ولوحة فان جوخ ليلة النجوم، ولوحة مايكل أنجلو الحساب الأخير، وكذلك معزوفات بيتهوفن، كما تم توظيف الزهور أيضاً في الرواية بطريقة تربط بين الفكرة والمكان، وتجعل السياق متناسقاً بجمالية الزهرة والمكان مثل زهور الساكورا اليابانية التي تحمل في رمزية دلالة أن الطبيعة أو الحياة سريعة الزوال، وهي رمز ملهم للطيارين اليابانيين الذين وضعوا رسمة هذه الزهور على طائراتهم ومقذوفاتهم كرمز للجمال وللحياة سريعة الزوال، ولاتزال أزهار الساكورا (الكرز) رمزاً لجمال الطبيعة اليابانية، وهي إسقاط جميل لجمال روح زوجة والتر اليابانية، وأيضاً استلهام رمزية زهرة الأوركيد(السحلب) وهي تشير إلى الرومانسية والحب في التراث الصيني والشرق آسيوي، وهو ما تتحدث عنه الرواية في علاقة حب تنمو بين لوكاس وإيما. والحق يقال أن الكاتبة وظّفت كل هذا الزخم الأدبي والتاريخي في سياق سلس، وفي أحداث لا يتقصها التشويق ولا الإثارة، واحتلّ عنصر المفاجأة مكانه في جماليات السرد الروائي، الذي تزيّن بالعديد من الجمل الرائعة التي تعكس ثقافة الكاتبة، ولغتها الفصيحة الرائعة (السهل الممتنع)، كما أبدعت الكاتبة في وصف تفاصيل المكان، واستجلاء المكنونات النفسية لأبطال روايتها، ووظفت بعض المقولات الشهيرة لخدمة الحوار الروائي مثل عبارة هوارد زين الروائي الأمريكي"كيف يمكن أن تشن حرباً على الإرهاب بينما الحرب بحد ذاتها إرهاب"، وحوار مذكرات قبو في رواية دوستويفسكي ، وغيرها والذي كان وظفته باقتدار؛ فكان معبراً وقصيراً، تشعر معه بتزايد وتيرة الأحداث. والكاتبة ولاء عودة أبو غندر أصدرت العديد من الروايات التي تتناول موضوعات وقضايا متنوعة، ومعظمها يتكئ على التاريخ، وبعضها على الخيال العلمي، واللافت في أدب الروائية ولاء أنه مختلف عن الطرح السائد في الروايات العربية أو المحلية، حيث تتجاوز الأحداث الاجتماعية إلى الإيغال في الفكر والفلسفة واستلهام الموروث العالمي، ليجعل من روايتها عملاً مميزاً بمعنى الكلمة. من أراد روايات مختلفة تماماً عن ما يعرفه وقرأه؛ فليقرأ لولاء أبوغندر، وأراهن على أنه لن يندم على ذلك.