عندما تصنع كعكة في مطبخك، ثم تحاول إدخال بعض التحسينات عليها، فيأتي شخص ويقول لك لا تفعل هذا بل هذا أفضل، فتبتسم له وتكمل عملك، ولكن لا يكتفي بذلك بل «يدفعك» ثم يضيف ما يريد عليها ويقول: أنا أعلم منك بهذه الأمور! ولا تستطيع عمل شيء! وعندما تعيد صنعها بعد ساعات تجده فوقك مرة أخرى يضيف التعديلات عليها بنفسه ولا يدع لك المجال، وبعد تكرار ذلك أصبحت تصنع الكعكة، تضيف عليها ما كان يضعه هو عليها بالقوة تلقائياً! أتمنى أن تصل الفكرة التي أريد توضيحها من خلال المثال السابق، وإن وصلت الفكرة فلا تقرأ الباقي، فهو تحليل ورؤية مع قليل من الحذلقة! مجتمعنا مؤدلج بفكر تراكمي ينتسخ نفسه في كل جيل! وبشكل منتظم وبترتيب أفكار لدى الكل وكأننا فصول كتاب يتكرر المحتوى في كل فصل منها! هنا أريد أن أتحدث - كما وضح لكم - عن «الوصاية الفكرية»، وقبل أن أتعمق فالكثير لا يعرف معنى الوصاية الفكرية، ولهم فإن الوصاية الفكرية هي «جهة ما تعطي لنفسها الحق في تحديد ساحة التفكير أمام الناس أقل من الحد المسموح من الإسلام بالتفكير فيه، وتسعى لإلزامهم بآرائها وأفكارها»، كثير يسييء الظن فيني ويعتقد أنني اقصد بالوصاية «محاربة شعيرة الأمر بالمعروف، واعتبار الخطاب الديني والأحكام الشرعية والفتاوى الصادرة من كبار العلماء وصاية متشددة!»، أبداً لا أقصد هذا المصطلح، فقط لتكونوا على بينة منذ البداية ولا تقعوا في أزمة مصطلحات! لقد فرق الله بين الإنسان والحيوان بنعمة العقل، وهبنا الله عقلاً به نصنع القرار، فمظاهر الاستعباد المادي انمحت تقريباً، ولكن ممارسات الوصاية الفكرية لا تزال واسعة النطاق، فتُفرض علينا الوصاية من كل جهة منذ صغرنا بأفكار ورؤى متماثلة، وقتل الإبداع فينا، واكتشاف الجديد بالتلقين اللامفيد، فالله سبحانه وتعالى خلق الجن والإنس وأعطاهم طريق النجاة وطريق الهلاك وخيّرهم فيه، فمن اختار فله عاقبته، فقال تعالى ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (19). جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: «فاستبقوا الخيرات، وهي الأحكام والتكاليف، ولا تنشغلوا بأمر هذه الاختلافات التي بينكم وبين غيركم، فإن مرجعكم جميعاً إلى ربكم تعالى فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون، ويحكم بينكم حكماً فصلاً، ويقضي قضاءً عدلاً»، «الميزان في تفسير القرآن، ج5 ص362، الطبعة الأولى 1991». حولنا أناس لا يريدون من الحياة سوى الراحة! فلنعبد ربنا ونعمل بما يأمُرنا به وهو التأمل والتفكير، وشرع لنا حدوداً لذلك، فحري بنا أن نلتزم بما قال، ولكن هنا العكس، فمن يبدع ويحاول أن يرتقي بنفسه ويتعلم ويناقش ويكتب في أمور ربما تكون غريبة على المجتمع - بسبب سياسة الاتكالية - ولكن في حدود الدين يُحارب ويلاقي هجوماً ونبذاً كبيراً ويصبح في مأزق، أما الأسوأ من الوصاية الفكرية فهو استغلال سلطة الوصاية الفكرية لترسيخ مصلحة سياسية أو فكرة أيديولوجية ضيقة يعتقد أصحابها أنها صائبة، فكما تحدث الكاتب الرائع فهد عامر الأحمدي في مقال بصحيفة «الرياض» بتاريخ 3 – 3 – 1429 قائلاً: «فمن غير المنطقي والمقبول أن تفرض جهة وحيدة - وربما ضيقة ومنعزلة - رأيها على مجتمع كامل يموج بالآراء والأهواء والتيارات الفكرية، وحتى لو أتيح لأي جهة وحيدة فرض رأيها الخاص في الماضي فيصعب عليها ذلك في الحاضر بسبب انهيار الحدود الإعلامية والثقافية بين الدول والمجتمعات»، وفي مقال «ميرا الكعبي» الذي نشر في صحيفة «الوطن» بتاريخ 3 شوال 1429، إذ قالت فيه: «هذه الممارسة، شئنا أم أبينا، ترسبت في عقلنا الباطن، وشكلت وعينا المستقبلي، فأصبح جزء كبير منّا «اتكالياً» يمارس الاتكالية الفكرية على أساس أن هناك آخرين، هم أحق منا في أن يقرؤوا، ويكتبوا، ويملكوا العلم، ويملكوا التفكير وتخطيط هوية المجتمع والأفراد على حد سواء، فلماذا نمارس «نحن» هذه الوظيفة المضنية إذا كان هناك من يكفينا شر التفكير والاجتهاد العلمي». صدقوني ثقافة مثل هذه لا تجدي نفعاً ولن نخرج منها سوى بالدمار الثقافي مستقبلاً في بلد منظم بقوانين معينة تكفل للإنسان حريته الشخصية سواءً في التعبير أو في طريقة العيش أو حتى العبادة، إذا كان ذلك في حدودك الشخصية التي لا تصل لحدود الآخرين، خيرنا من عرف نفسه وأعطاها حقها من غير تجاوز، وأخيراً: «الوصاية الفكرية» ليست سيئة عندما نكون في بداية حياتنا، فنحن صغار لا نعي الدنيا ولكن يجب أن تُعطى لنا قشة بعد أن تكتمل قاعدتنا الدينية لتقذفنا إلى «فجوة» الإبداع والتفكير، يا سادتي: «فلنرتقِ فنحن نسخ مكررة في كل جيل»!