نقلا عن نقلا عن اخر ساعة : في شهر ديسمبر الجاري، يدخل المفكر الكبير فؤاد زكريا عامه الثالث والثمانين، وهو يحمل علي ظهره تاريخا طويلا من الكتابة و التفكير العلمي، ومعارك التنوير التي خاضها، طوال تاريخه الأكاديمي، في مصر و الكويت التي سافر إليها في سبعينيات القرن الماضي، لتدريس الفلسفة في جامعاتها، وهناك أصدر سلسلة عالم المعرفة، أحد أهم المشروعات الثقافية في المنطقة العربية حاليا. وطوال سنوات، خاض الدكتور فؤاد زكريا، حروبا ومعارك عديدة مع التيارات الأصولية، ودعاة التخلف والجمود.. بعضها كان مباشرا، وتمثل في مواجهات مع منظري هذا التيار، وكانت النتيجة أن تلقي عشرات التهديدات بالقتل و الاغتيال، وأغلب هذه المعارك كان غير مباشر، عبر كتبه ومقالاته وترجماته، وبالطبع محاضراته. وقد حرم ضعف بصر زكريا مؤخرا، الآلاف من قرائه و محبيه وتلاميذه، من مقالاته، إذ لم يعد بوسع المفكر الكبير الآن، أن يكتب بشكل دوري، أو يقرأ حتي، بخلاف متابعة الصحف عن طريق بعض أصدقائه. التقيته في منزله بحي مدينة نصر.. يجلس محاطا بمكتبته الهائلة، التي تغطي أرففها، حوائط المنزل بالكامل.. والغريب أن هذا الفيلسوف، الذي قدم للمكتبة العربية، أهم الكتب والترجمات في الفلسفة، والتفكير العلمي، ونقد التفكير السائد في المجتمعات العربية، لا يحتفظ تقريبا بصور فوتوغرافية له.. لا شخصية، أو مع الرؤساء والملوك الذين كرموه طوال حياته، أو حتي مع تلاميذه الذين صاروا الآن كتابا كبارا وأساتذة مرموقين.. ذلك أن فؤاد زكريا يؤمن بحكمة، كانت هي بوصلة حياته دائما.. أن الكاتب والمفكر عليه أن يقوم بدوره في تنوير مجتمعه، وأن يقول كلمته ويمضي دون أن ينتظر تكريما أو مقابلا، ولكي يقوم بهذا الدور.. فعليه أن يقدر الوقت وقيمته، وألا يهدره في شيء، لأن ما سيبقي منه هو كتبه ومقالاته، وليس الصور التذكارية، أو ميداليات التكريم. ولأنه، وهو في الثالثة والثمانين من عمره، مازال يؤمن بقيمة الوقت، طلب مني أن أبدأ أسئلتي مباشرة، لأن أمامه ساعة واحدة قبل وصول أحد أصدقائه ممن يقرأون له الصحف، ويتابع الأخبار عن طريقهم. سألته: كنت من أوائل الذين تصدوا لمحاولات التيارات الأصولية التي ترفع شعارات دينية، في السبعينيات وتحاول السيطرة علي الشارع المصري والعربي، وقد خضت معارك ضارية مع منظريهم في تلك الفترة، لكن الآن هذه التيارات تنامت، حتي أصبحت هي المسيطر الوحيد تقريبا علي الشارع مستخدمة كافة وسائل الاتصال الحديثة، وفي المقابل حدث تراجع وانحسار للتفكير العلمي والأصوات المدنية مقابل الدينية.. فما سبب تنامي تلك التيارات، من جهة وتراجع الأصوات الأخري من جهة ثانية ؟ السبب الأرجح في نظري، هو وجود مشاكل يعجز الإنسان العربي عن حلها، وشعوره أن الأرض لم تعد تلبي مطالبه الأساسية، فأصبح يلوذ بالسماء سواء في النواحي السياسية أو الاجتماعية، وهذا أصبح السائد في مصر، وأغلب المجتمعات العربية الآن، وهذا نتيجة التخلف الفكري بشكل عام وضعف مستوي التعليم، ما يجعل العقول علي استعداد لقبول هذا الفكر، والتأثر به والاعتقاد بأنه حل لكل المشكلات الموجودة. لمواجهة هذا، ما هو الدور المفروض أن يلعبه المثقفون والتنويريون لتقديم بديل للإنسان العربي؟ هذا يحدث، وأنا أسمع عنه، وأتابعه عن طريق الأصدقاء من حين لآخر، فبعض الكتاب لا يقبلون هذا الفكر ويدعون إلي تجاوزه، وأغلب المثقفين يؤدون دورهم، ولكن بعضهم الآخر يشعر بالخوف لأن الطرف الآخر من المتأسلمين يهددون خصومهم دائما بالتكفير وتأليب الرأي العام عليهم، بل كثيرا ما يتم استعداء الدولة عليهم وهذا أخطر. تقول إن استعداء الدولة أخطر.. هل تقصد قضايا الحسبة التي زادت مؤخرا، وما خطورة هذه القضايا في رأيك؟ لم يعد لهذه القضايا أي داع في العصر الحديث، وهي كانت موجودة قديما ومرتبطة بالمعاملات التجارية والاقتصادية، وأنا مندهش لعودة هذا الفكر الذي عفي عليه الزمن، والأغرب أن الحكومة تستجيب لها، وأنا ألوم الدولة لوما شديدا، لأنها كان يجب من اللحظة الأولي أن تستبعد مطالب دعاة الحسبة، وأن توقفهم عند حدهم، بدلا من الاستجابة لهم. لعلك تابعت، ما حدث للدكتور حسن حنفي وسيد القمني بعد حصولهما علي جوائز الدولة، ومطالبات البعض عبر دعاوي قضائية تندرج في إطار دعاوي الحسبة بسحب الجوائز منهم. أنا مندهش من مطالبة الإسلاميين بسحب الجائزة من حسن حنفي، لأن أصوله الفكرية كانت من الإخوان المسلمين! هل اطلعت علي كتابات سيد القمني؟ ليس كلها بسبب عدم قدرتي علي القراءة الآن، لكن القمني كان تلميذي في قسم الفلسفة بجامعة عين شمس وكان دائما ما يناقشني في أفكاره، وبعدها سافرت إلي الكويت وهو أيضا سافر ليعمل مدرسا، وكان يزورني دائما ويناقشني في بعض أفكاره التي تضمنتها كتبه. لكن بعض المثقفين يقولون إن مشروعه الفكري مزور، وكذلك الدكتوراه التي حصل عليها ؟ درجة الدكتوراه أمر غير مهم في رأيي، والمثقفون "كبروا المسألة" لمجرد التشنيع، و ما أكثر الذين حصلوا علي الدكتوراه ولا يستطيعون تقديم إنتاج فكري مهم، ويستخدمون اللقب فقط لإيهام الرأي العام بأهمية أعمالهم التي كثيرا ما تكون سطحية. أليس من الغريب أن يقف بعض المثقفين علي نفس الأرضية مع الإخوان المسلمين في قضية القمني ؟ بلا شك حدث نوع من الحقد من قبل البعض علي القمني، بعد حصوله علي جائزة الدولة، والتقوا في ذلك بكل أسف مع الإخوان المسلمين. عدت للكتابة عام 2006 أثناء أزمة الحجاب وفاروق حسني.. فلماذا لم تواصل؟ أنا كتبت في الأهرام حينها، لأن أعضاء جماعة الإخوان في مجلس الشعب طالبوا بعزل وزير الثقافة، وأنا وهذا معروف لم تربطني يوما بالوزير أي علاقة، ولكنني كتبت انطلاقا من رفضي لأن تملي هذه الجماعات رأيها في قضية الحجاب. كنت من أوائل الذين بادروا بشجاعة لعقد مناظرات مع رموز تيار الإسلام السياسي، مثل الشيخ القرضاوي، والراحل محمد الغزالي.. هل تري أن هناك ضرورة لعودة تلك المناظرات الآن؟ بعد حوادث القتل والاغتيالات، التي تلت تلك المناظرات في الثمانينيات والتسعينيات.. مثل اغتيال الكاتب فرج فودة، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ ، ندمت علي هذه المناظرات، وأنا لم أعد أؤمن بأسلوب النقاش مع تلك الجماعات، لأن طريقة الإقناع العقلي لا تفلح معهم فهم يريدون فرض رأيهم وسلطتهم بقوة السلاح والإرهاب. في كتابك "العرب والنموذج الأمريكي" قلت إن أمريكا تتعامل مع الشعوب والثقافات الأخري بذهنية الرجل الأبيض والعبيد.. بعد وصول باراك أوباما للحكم كأول رئيس أمريكي أسود، هل تري أن أمريكا بدأت تغير تلك الذهنية تجاه الآخر..أم أن الأمر مجرد تغيير سياسي داخلي؟ لا أعتقد أن اختيار أوباما كان مجرد لعبه سياسية، بل دليل علي أن أمريكا تجاوزت عصر احتقار السود، واضطهاد الأعراق الأخري ومعاملتهم علي أنهم "بني أدمين" من الدرجة الثانية.. وهي – أي الولاياتالمتحدةالأمريكية- لا تحتقر الإنسان العربي، في هذا الإطار، بل تشعر بالخوف منه وتحاول حماية نفسها من تأثيره خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر .. تابعت خطاب أوباما في القاهرة، هل تري أنه فعلا يعبر عن طريقة جديدة في التفكير تجاه الثقافات الأخري والإسلام تحديدا، أم أنه خطاب دعائي يحمل رأي صاحبه أكثر من كونه يعبر عن وجهة نظر مؤسسات صنع القرار الأمريكية؟ أتصور أن خطاب أوباما، يعكس موقفه الشخصي، ويرجع لأصوله المسلمة، لكنه لا يعبر عن تغيير في اتجاهات المؤسسات الأمريكية الحاكمة. قلت من قبل إن أمريكا علي استعداد للتعامل مع تيارات الإسلام السياسي، في المنطقة العربية ودعمها، لأن سيطرة هذه التيارات علي المقدرات الاقتصادية والثقافية يحول دون تقدم المجتمعات العربية .. هل هذا الوضع مازال قائما حتي الآن ؟ هذا الاتجاه، كان مرتبطا أساسا بخشية أمريكا من نفوذ التيارات اليسارية والقومية في العالم العربي وهذا وضع لم يعد موجودا الآن. هل تعتقد أن جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من التيارات السياسية الدينية، قادرة علي الوصول للحكم الآن؟ هناك طريقتان للوصول إلي الحكم، إما بالانقلاب بقوة السلاح، وإما عن طريق الانتخابات، وأنا أعتقد أن الإخوان وصلوا إلي أكثر ما يمكن أن يصلوا إليه في مجلس الشعب، حيث يمثلهم ما يقرب من60 نائبا، ولا أتصور أنه في أي انتخابات مقبلة يمكنهم الحصول علي نصف هذه النسبة، لأن وعي الناس بالتدريج أصبح أرفع شيئا فشيئا، والتجارب الإسلامية في الدول المحيطة لم تعد مغرية علي الإطلاق بل تدعو إلي تجنب تكرار تلك التجربة .. انظر إلي إيران وماذا فعل الحكم الإسلامي فيها. بمناسبة الحديث عن إيران، هل كانت ثورة الشباب ضد نتائج الانتخابات الرئاسية ستنجح في تغيير وجه الحياة في إيران لولا القمع العنيف الذي ووجهت به؟ أعتقد أن ثورة الشباب الأخيرة، لم تكن ضد نجاد نفسه بقدر ما كانت ثورة علي أسلوب الحكم وولاية الفقيه والنفوذ المطلق للملالي.. هذا ما ثار عليه الشباب ومن خلفهم الإصلاحيون. وفي نهاية الأمر الثورة كانت تعبيرا عن اتجاه أصيل لدي الشعب الإيراني الذي خرج بالملايين في الشوارع وهذا أمر لا يمكن لأي سلطة تجاهله بل عليها أن تقف معه ولو في منتصف الطريق . و هل تلك الثورة مرشحة للتكرار؟ بعد القمع الشديد والاعتقالات والمحاكمات أشك في تكرارها. وعي جيل الشباب العربي بمساوئ الحكم الإسلامي.. هل يدفعه إلي النزول للشارع، في حالة ما وصل الإخوان أو غيرهم للحكم ؟ نعم هذا ما سيحدث.. ولكن ستتحول المسألة إلي مذابح لأن محاولة الإسلاميين للوصول للحكم ستكون بطريقة قمعية لا تقبل أي نوع من المقاومة أو المعارضة. عشت في الكويت فترة طويلة وأصدرت سلسلة كتب دورية مازالت في مكتبة كل مثقف.. كيف تقيم هذه التجربة الآن؟ كانت تجربة خصبة جدا لعدة أسباب، أولا ذلك القدر الكبير من حرية الرأي الذي كان موجودا في الكويت وقتها، وعلي الرغم من أنني كنت أكتب في الصحف باستمرار إلا أنه لم يحدث ولو مرة واحدة أن تدخلت أي جهة في كتاباتي أو حاول أحد تغيير حرف مما أكتبه، كذلك كانت قدرتي علي التعبير عن نفسي بأوضح طريقة ممكنة، الأمر الثاني أنني نجحت في إقناع الكويتيين أنهم دولة غنية ويستطيعون الإنفاق علي الثقافة بسخاء، لذلك كنت وراء إنشاء سلسلة عالم المعرفة التي كانت تنفد فور طرحها في الأسواق وكانت توزع 50 ألف نسخة كل شهر ويتهافت عليها الشبان الحريصون علي القراءة والثقافة في كافة البلدان العربية، وهذا أعتبره شيئا إيجابيا جدا في تجربتي بالكويت. كيف تري انتشار الفضائيات الآن وما تقدمه، خصوصا أن مفكرين كبارا مثل الراحل الدكتور هشام شرابي يرون أن ظهور الفضائيات في المنطقة العربية، كان أهم من ثورات التحرر من الاستعمار، فهي علي حد قوله نقلت وعي المواطن العربي نقلة مختلفة، وفتحت النوافذ أمامه للمعرفة؟ لا أستطيع الحكم علي الفضائيات لأنني الآن لا أستطيع مشاهدة الصورة علي التليفزيون لضعف بصري، لكن كل ما أسمعه عنها يدل علي أن أغلبها، لا يقدم ما هو في صالح التقدم العقلي والثقافي للإنسان العربي. كنت من أبرز الكتاب و المفكرين الذين اهتموا في كتاباتهم بالقضية الفلسطينية.. إلي أي طريق تتجه القضية الآن؟ أنتهز هذه الفرصة لأكرر كلاما قلته عشرات المرات، إن الدبلوماسية العربية تقصر تقصيرا فادحا، عندما لا تكون مرجعيتها قرار التقسيم الصادر من الأممالمتحدة عام 1948 وهو القرار الذي ينص علي إنشاء دولتين، وهذا هو أقصي ما يسعي إليه العرب الآن، وأتمني علي كل وزراء الخارجية العرب عندما يتحدثون عن القضية في المحافل الدولية، أن يرجعوا لهذا القرار ليذكروا العالم به ويطالبوا الرأي العام العالمي بإحيائه في الوقت الحاضر.