كتب رئيس هيئة علماء المسلمين الدكتور يوسف القرضاوي، الخميس، مقالاً في ذكرى وفاة الشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي المملكة العربية السعودية، التي تصادف اليوم. ووقف الشيخ القرضاوي عند محاسن ومآثر شيخ الجزيرة ابن باز، والمكانة العلمية التي تربع عليها، حيث قال: "ما قبض الله عالمًا إلا ترك وراءه ثغرة لا تُسد". وأضاف القرضاوي في مقاله المنشور عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": "كثرة ذهاب العلماء يؤذن بخراب الدنيا"، في إشارة إلى فقدان علماء المسلمين البارزين واحدا تلو الآخر، حيث وصف فقدانهم بأنه "مصيبة بالنسبة للأمة". يذكر أن الشيخ ابن باز شغل منصب مفتي عام المملكة العربية السعودية منذ عام 1992 حتى وفاته، عام 1999، وكان بصيرا ثم أصابه مرض في عينيه عام 1927 وعمره آنذاك 16 عاما، وضعف بصره ثم فقده عام 1931 وعمره 20 عاما. ولد في الرياض لأسرة يغلب على بعضها العناية بالزراعة، وعلى بعضها الآخر العمل في التجارة، وعلى كثير من فضلائها طلب العلم. ومن أعيان هذه الأسرة الشيخ عبدالمحسن بن أحمد آل باز، الذي تولى القضاء بالحلوة (الحوطة) والإرشاد في الهجرة الأرطاوية في قبيلة مطير. ومنهم كذلك الشيخ المبارك بن عبد المحسن، الذي تولى القضاء في بلدان كثيرة من المملكة ومنها الطائف وبيشة وحريملة والحلوة. وتاليا نص المقال كما جاء في صفحة الشيخ: "في ذكرى وفاة علامة الجزيرة ابن باز.. وفي 13 مايو 1999م، فقد العالم الإسلامي عالما جليلا، وعلما من أعلامه، سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي المملكة العربية السعودية، وأكبر علمائها وأشهرهم. وفقد العلماء يعتبر مصيبة بالنسبة للأمة، خصوصًا إذا كان هؤلاء العلماء ممن آتاهم الله حظًا وافرًا في العلم والعمل، والدعوة والتعليم، وقد جاء عن الإمام علي رضي الله عنه: إذا مات العالم ثُلمت في الإسلام ثُلمة لا يسدها إلا خلف منه. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما قبض الله عالمًا إلا ترك وراءه ثغرة لا تُسد. وكثرة ذهاب العلماء يؤذن بخراب الدنيا، ولهذا جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالم، اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فُسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" . المصيبة الكبرى أن يذهب العلماء، ويبقى الجهال، الذين لا يتورعون أن يُفتوا بما لا يعلمون. العالم المتبحر إذا سُئل عما لا يعلم قال: لا أعلم. ولا يضره ذلك شيئًا، ولكن الجاهل المتعالم يحشر نفسه في كلِّ شيء، ويفتي فيما يعلم وما لا يعلم، وهذه هي البلوى. الحقيقة أن الأمة الإسلامية فقدت أحد الرموز، وأحد الرجالات الذين نذروا حياتهم لله وللإسلام، وللعلم وللدعوة إلى الله، سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس إدارات البحوث والإفتاء، ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وغيرها من المناصب العلمية والمسؤوليات. وهذا المناصب على كثرتها وأهميتها، لم تعزل الشيخ الجليل عن الناس، لم تجعله يعيش في صومعة منعزلة، أو في برج عاجي، بل خالط الناس، وكان بيته مفتوحًا، وقلبه مفتوحًا، ومكتبه مفتوحًا لكل المسلمين، لكل ذي حاجة مادية أو علمية أو معنوية. كان الرجل يتحرك من أجل قضايا المسلمين، ومآسي المسلمين، ولا يدع أي فرصة إلا وينصح فيها، إما بالمشافهة، وإما بالكتابة. تميز الشيخ بسعة العلم، وغزارة المادة، فقد أوتي - والحمد لله - التبحر في علوم الشريعة، في علم الفقه، والتوحيد، والحديث، والتفسير، وعلوم العربية، حتى إني لم أره يلحن مرة واحدة، بينما أرى كثيرين من الدكاترة والأساتذة - للأسف - ينصبون المجرور، ويرفعون المكسور، ولكن الشيخ كان دقيقًا جدًّا في هذا فكان علامة رحمه الله. ولم يكن للعلم وحده، بل كان رجلًا ربانيًا، يقول السلف رضي الله عنهم: الرباني هو الذي يعلم ويعمل ويعلم. وكان هو هؤلاء جميعًا، كان علامة بالعلم، وكان علامة بالفعل، حافظًا من حفَّاظ السنة، له تعليقات وتصحيحات على فتح الباري، وصدرت طبعة مصححة معتمدة عند أهل العلم بقراءة الشيخ ابن باز، أو القراءة عليه، وكان له درس أسبوعي يُعلق فيه على أحاديث (منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار) للجد ابن تيمية، ويحاوره أحد تلاميذه أو أحد العلماء في المملكة مما يدل على حضور الرجل، وسعة علمه بالسنة. كان حنبليًّا في مذهبه الفقهي، ولكنه لم يكن متعصبًا، ولم يكن مقلدًا، كان يتبع الدليل، ويتبع الكتاب والسنة، فإذا لاح له أن مذهبه ضعيف في قضية، أو في المعتمد من المذهب اعتمد رواية أخرى، أو مذهبًا آخر، وكان هو وحده الذي يفتي بمذهب شيخ الإسلام ابن تيميه في مسألة الطلاق، طلاق الثلاث يقع واحدة، واليمين بالطلاق فيه كفارة، ولا يقع إلى آخره. وأكثر علماء المملكة يعتمدون (المُعتمد في المذهب). ومناقب الشيخ عبد العزيز بن باز كثيرة ورحبة، فقد أوتي الرجل من مكارم الأخلاق، ومن خصائل الخير، ومن الفضائل الجمة، ما لم يؤتَ غيره، كان مهذبًا، لم أسمعه يجرح أحدًا. كنا في المجمع الفقهي، وهناك مَن يوافقه، وهناك مَن يخالفه، فما سفَّه رأي أحد، ولا جرح مشاعر أحد، كان مهذَّبًا فعلًا، وكان زاهدًا في الدنيا، وكان متواضعًا في غاية من التواضع، وكان كريمًا مائدته ممدودة لكل الناس. كان فيه الكثير من خصال الخير، وكان رفيقًا فيما يأتي، وفيما يدع، في علاقته بولاة الأمور، وفي علاقته بمخالفيه. كان رجلًا رفيقًا فيه قبس من أدب النبوة، ما مدح الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام، حين قال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]. لقد خسرت الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها واحدًا من أبرز الرجال الذين عاشوا دعاة لله، لسانًا من ألسنة التوحيد، وبحرًا من بحور الفقه، وجبلًا من جبال العلم، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر له، ويرحمه، ويتقبله في الصالحين، ويجزيه عما قدم لدينه ولأمته خير ما يجزي العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، والأئمة المجتهدين، اللهم آمين، اللهم عوضنا فيه خيرًا. آمين. وقد سافرت للمشاركة في الصلاة على سماحة الشيخ ابن باز، وتقديم العزاء فيه، وقد (تقدم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز جموع المصلين على المفتي العام للمملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أمس في الحرم المكي الشريف ... وتلقى الملك فهد والأمير عبد الله – ولي العهد وقتئذ - التعازي عقب الصلاة من الأمراء والعلماء، ومن وزير العدل والأوقاف الكويتي أحمد بن خالد الكليب، ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية القطري أحمد بن عبد الله المري، والشيخ يوسف القرضاوي، وسفير الكويت لدى المملكة الشيخ جابر الخالد الصباح، وسفير الأردن لدى المملكة هاني خليفة. واستقبل الملك فهد في قصر الصفا في مكةالمكرمة أمس في حضور الأمير عبد الله، الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين عضو هيئة كبار العلماء، والشيخ محمد بن عبدالله السبيل الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، والشيخ عبد العزيز الفالح نائب الرئيس العام لشؤون المسجد النبوي، وأئمة المسجد الحرام الشيخ صالح بن حميد، والشيخ عبد الرحمن السديس، والشيخ سعود الشريم، ونائب رئيس مجلس الشورى الدكتور عبدالله عمر نصيف. وقدم العلماء التعازي للملك فهد في وفاة الشيخ ابن باز. كما استقبل الملك فهد أبناء الشيخ عبد العزيز بن باز، ونقلت (وكالة الأنباء السعودية) عن الملك أنه (واسى أبناء الفقيد، معبرًا عن عميق حزنه وألمه لهذا المصاب الجلل، الذى فجعت بوفاته الأمة الإسلامية، داعيًا الله سبحانه وتعالى أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته). وحضر اللقاءين الأمير سلطان، والأمير نواف، والأمير نايف، والأمير سلمان، والأمير ماجد، والأمير عبد الإله. وبلغت نسبة الإشغال في فنادق مكةالمكرمة أمس وليلة أول من أمس (90%)، وهي نسبة كبيرة لا تحققها الفنادق إلا في موسم الحج وشهر رمضان، وأغلقت منذ الصباح حجوزات الطيران إلى جدةوالطائف من كافة مناطق السعودية حيث توجه محبو الشيخ ابن باز إلى جدةوالطائف في طريقهم إلى مكة للمشاركة في تشييع الجثمان والصلاة عليه). ورثيته رحمه الله في برنامجي الشريعة والحياة".