منذ أكثر من أربعين عامًا، لم تستطع العلاقات العراقية – السعودية أن تكون مستقرة لمدة مقنعة، هذه العلاقة بين الدولتين دائما ما كانت متشنجة – مضطربة – مقطوعة – متباعدة منذ عام 1980 حتى عام 2003 وما بعدها أيضًا، حيث كانت العلاقات مستقرة على أنها علاقات غير جيدة. التحول الذي حدث بعد عام 2003 هوأن العلاقات امتازت بسرعتها على الصعود والتقارب(لمدة قصيرة ولحظية) وسرعتها على النزول والانهيار. على عكس طبيعة العلاقات السيئة على مدار الخط قبل عام 2003. إذ لم يكن الطرفان قبل احتلال العراق يستطيعان الاستمرار بنسق واحد والاتفاق لمدة طويلة أو حتى متوسطة على بعض القضايا التي تتعلق بالترتيبات الجيوإقليمية؛ ذلك بسبب شعور الطرفين بوجود تهديدات إستراتيجية متبادلة. سواء من قبل السعودية عبر وجود القوات الأمريكية في أراضيها مما يهدد العراق، أو من قبل العراق الذي يهدد حسب وجهة النظر السعودية أراضيها وسيادتها من خلال ما كان يمتلكه من أسلحة وترسانات غير تقليدية تهدد الخليج برمته وليس فقط أراضيها. هذه الحالة غير المستقرة سببها مجموعة من القضايا: أهمها وأكثرها حيوية هو أن السعودية في مرحلة ما قبل عام 2003 كانت لا تتفق مع طموحات ورغبات العراق القومية التي يرنو لتحقيقها لأغراض السيطرة الإقليمية، لاسيما بعد تجربة اجتياح الكويت من قبل النظام العراقي السابق نهاية عام 1990 وجعل السعودية تدرك بشكل كبير أنها مهددة هي الأخرى من هذا النظام بشكل مباشر، لا بل إن التهديد قد وقع فعلاً حينما قصف العراق السعودية بصواريخ متعددة من قبل نظام الرئيس السابق صدام حسين في عقد تسعينات القرن المنصرم إبان الانسحاب العراقي من الكويت. العراق والسعودية بعد عام 2003: رؤية في الإشكاليات -------------------------------------------------------------- فيما يخص العلاقات العراقية – السعودية بعد عام 2003 ولأكثر من ثمانية أعوام وتحديدًا في مرحلة حكم رئيس الوزراء السابق نوري كامل المالكي لولايتين متتاليتين (2006 – 2014). كان العراق يدور في فلك واتجاه شرقي الجانب، وكان هذا الفلك متمثلًا في القطب الإقليمي الشرق أوسطي الإيراني المتنامي المحاصر دوليًا وإستراتيجيًا، الأمر أدى إلى أن ينتهج العراق في سياسته الخارجية أسلوبًا أحادي الجانب في العلاقات مع إيران. فالرؤية العراقية هنا نابعة من التصور الأيديولوجي الضيق لرئيس الوزراء السابق ولحزبه الحاكم، وهي غير شاملة للدولة العراقية الأمة، من ثم ربط كل شيء تقريبا في هذا البلد العراق (بإيران)، مع غياب واضح جدا لتصور عراقي حر وشامل لكافة شؤون العراق الخارجية، وبالتأكيد هذا لم ولن يرضي السعودية كدولة لديها مخاوف كبيرة سواء أكانت أيديولوجية أو عسكرية من العراق ومن يقف وراء العراق (إيران) بعد عام 2003. كل هذه الإرهاصات صار ثمنها نشوءَ وتطورَ وارتفاع موجات الصراع السعودي – الإيراني على أرض وبيئة العراق، من ثم من الطبيعي أيضًا أن ينعكس هذا الصراع – مع الاحتفاظ بخصوصية كل طرف وإمكانياته – على أرض وشعب العراق. الأمر الذي أثر وبشكل كبير وملحوظ، من ثم جعل العراق يسير في اتجاهات غير طبيعية للعلاقة الإقليمية مع الطرفين السعودي والإيراني، مما أدى إلى انهيار العلاقات العراقية – السعودية لأكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، بعد تبادل اتهامات متكررة بين الطرفين تتعلق بالقضايا الأمنية والعسكرية وبخروقات السيادة ودعم الإرهاب. وهذا الأمر لا يعني أن للسعودية نوايا حسنة تجاه العراق، وهي راغبة بإقامة علاقات حسنة معه بقدر ما أن السعودية كانت تنظر إلى الدولة العراقية على أنها دولة مذهبية لا يمكن (تقريبًا) التعاون معها لمدة طويلة إلا لأغراض تكتيكية منفعية برغماتية. ويعزي بعض المتخصصين في شؤون العلاقات العراقية – السعودية التدهور المزمن الحاصل بين الطرفين إلى السياسات المذهبية الضيقة لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي، إذ كان دائمًا سببًا رئيسيًا بالإضافة للسعودية كدولة سياستها الخارجية هي الأخرى نابعة من مذهبها وفهمها للدين الإسلامي (فكانت تقوم في كثير من الأحيان بسبب انتماءاتها المذهبية أيضًا بإفشال مباحثات واتفاقيات لا ترغب بتطويرها مع العراق)، لذا من الطبيعي أن يكون هناك علاقات سيئة للغاية بين طرفين متضادين مذهبيًا. ولعل العلاقات العراقية – السورية المتشنجة والساخنة لفترة متقطعة بعد عام 2006 مثال يمكن القياس عليه وضربه لفهم طبيعة تفكير واضطرابات توجهات رؤى صانع القرار العراقي السابق (نوري المالكي) جراء اتهامات متعددة وكثيرة للنظام السوري، من ثم وصل الحال إلى التهديد العراقي على سوريا برفع دعوى ضدها في محكمة العدل الدولية بسبب اتهامات عراقية لسوريا تتعلق بتفجير وزارة الخارجية العراقية عام 2009. بالإضافة إلى اتهامات أخرى تتعلق بإيواء قيادات بعثية عراقية كبيرة لها أدوار سلبية في العراق، من ثم حدوث تحول عراقي جذري تجاه الموقف السوري وتطور العلاقة بين النظامين بعد حدوث الاضطرابات في سوريا عام 2012، وهذا التطور أسبابه كانت مذهبية واضحة. هذا المثال يوضح قدرة صانع القرار العراقي السابق (رئيس الوزراء) على إفشال وإدارة العلاقات الخارجية للبلد بصورة شبه هاوية، إذ لم يكن يستطيع صانع القرار العراقي السابق أن يتوازن إقليميًا مع أي طرف كان حتى ذلك الشبيه بأيديولوجيته الضيقة التي ينتمي إليها. وكل هذا بسبب عدم وجود تأملات ورؤى ناضجة يمكن تطبيقها في الدبلوماسية العراقية الإقليمية، فكانت التقاربات التي حدثت بين العراق والسعودية في هذه الأعوام الثمانية (مرحلة ولايتي المالكي)، أغلبها تقاربات تكتيكية تبادر بها السعودية قبل العراق لأغراض مرحلية كإعادة سجنائها وجثث قتلاها إلى أراضيها وضبط الحدود. فكان دائما الطرف السعودي لا يرد على أي تصريحات يدليها أي مسؤول عراقي يتهم بها السعودية بأنها راعية للإرهاب والتطرف في العراق، وإنما يكون الرد على الساحة العراقية وكان الشعب العراقي هو الذي يدفع فواتير هذا الصراع. لذلك كانت هذه العلاقات سريعة الصعود والنزول. مستقبل العلاقات العراقية – السعودية: نحو انفتاح جيوإقليمي مسؤول ومنظم ------------------------------------------------------------------------------------------ أما ما يخص إمكانية بناء علاقات عراقية – سعودية راهنة ومستقبلية في ظل تطورات وتصورات حكومة رئيس الوزراء الحالي الدكتور حيدر العبادي الجديدة فهي مرهونة بعدة قضايا: أولها : وجود حسن نية متبادل بين الطرفين يمكن أن يؤسس لإقامة علاقات جدية كأرضية لجعل هذه العلاقات ممتدة بشكل كبير وعميق إستراتيجيًا، ولمدة ليست بقصيرة، فرؤية العبادي الحالية نابعة من تصورات شبه ناضجة تفضي إلى أن الانفتاح الإقليمي الخارجي المسؤول والمنظم يمثل أهم عوامل استقرار الداخل العراقي، فأي تقارب عراقي – سعودي إقليمي جيوأمني خارجي يتناسب تناسبًا طرديًا موجبًا مع تماسك عراقي داخلي، يساعد البلدين على تجاوز خلافاتهم العميقة منذ أكثر من أربعين عامًا. بيد أن الحديث عن تحول جذري في طبيعة العلاقات بين البلدين أمر مبكر للغاية، لذا نحتاج لبدايات جيدة تؤسس لمستقبل جيد، وهذا فعلاً قد تم جزءٌ منه عبر الزيارات المهمة بين الطرفين. أما القضية الثانية وهي إيجاد مشتركات بين البلدين تساعد في تهيئة الأجواء لتقارب العلاقات بين الجانبين لجعل إمكانية ربط العلاقات جيوإقليميًا للطرفين واردة بشكل كبير، فيمكن قياس مؤشرات هذا الأمر على أرض الواقع من خلال الترحيب بحكومة العبادي من قبل الطرف السعودي (رغم إمكانية وصف هذا الترحيب على أنه ليس حبًا لهارون (العبادي) بل كرهٌ لموسى(المالكي))، وعبر الزيارات المتكررة رفيعة المستوى لشخصيات كبيرة عراقية إلى الرياض والوعود السعودية بزيارات أخرى، من ثم التأكيد على إعادة الانفتاح الإقليمي المشترك تجاه الطرفين عبر فتح السفارة السعودية في بغداد بعد أقل من أربعة شهور من تشكيل الحكومة العراقية. لذلك إن إمكانية حدوث تقارب عراقي سعودي مستقبلي يتعلق بالترتيبات الإقليمية الجيوأمنية محتملة جدًا لاسيما بعد رغبة العراق الجدية النابعة من تصور رئيس الوزراء الحالي (المعتدلة) في إرساء نوع جديد من العلاقات وتشكيل معالم صورة تكون أرضية للانطلاق نحو مستقبل عراقي سعودي إقليمي أكثر تعاونًا وانفتاحًا. وهذا ما رحبت به السعودية على الأقل على النطاق الإعلامي. وحقيقة هذا الأمر يمكن أن نقيسه مستقبلاً عبر سلوكياتها تجاه العراق. ولعل الفرصة سانحة الآن لتعميق وجهات النظر المشتركة لاسيما ما يخص القضايا الجيوأمنية وارتباطها بوجود التحالف الدولي في ظل السياسات الحالية لحكومة العبادي وفي ظل شعور سعودي بأن العراق أصبح دولة منفتحة فعليًا على الجميع.