في لقاء جمعني مع رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي قبل أسبوع من انتخابه لتشكيل الحكومة العراقية عام 2006 بمنزله في المنطقة الخضراء ببغداد، تم التطرق إلى قضايا متعددة تخص العراق ومستقبله وما يجب أن تكون الأجواء من أجل بناء عراق ينعم بالأمن والرخاء والبناء، وقد أخبرني حينذاك أن التيار الذي يقوده مقتدي الصدر طلب منه الترشح لمنصب رئيس الوزراء خلفاً لإبراهيم الجعفري وسليقي دعمه، عندذاك أخذ حوارنا منحًى آخر يتعلق باستحقاقات المرحلة المقبلة علي الصعيدين الداخلي والخارجي، بعدما رأيت تردده في الوقوف في مواجهة إبراهيم الجعفري الذي كان يحتل موقعاً قيادياً مرموقاً في حزب الدعوة الإسلامية الذي ينتمي إليه، والذي كان هو الآخر مرشحاً لرئاسة الوزراء. ومن خلال الأجواء التي رأيتها ولمستها في الزيارة نقلت له تصوري عن أجواء كانت تشير إلي تبنيه شخصيات سياسية عدة لتشكيل الحكومة العراقية، وأن عليه الاستعداد لتحمُّل هذه المسؤولية من أجل استقرار العراق في إطار من المصالحة الوطنية الحقيقية، في الوقت الذي تم التشديد علي ضرورة أخذ المحيط العربي الذي ينتمي إليه العراق في الاعتبار، لأن العراق شاء أم أبي بلد عربي يمكنه أن يلعب دوراً كبيراً ومميزاً في محيطه الطبيعي، خصوصاً أن الكثير من الأفكار طرح عند كتابة الدستور يتعلق بالفقرة الخاصة بالوضع العربي للعراق. وكان اقتراحي في اللقاء إعادة صوغ قضية «اجتثاث البعث» من خلال دراسة مستفيضة يتم بعدها اتخاذ قرار «جريء وشجاع» لإنهاء هذا الملف، وقلت له إن أفضل من يتخذ مثل هذا القرار هو حزب الدعوة الإسلامية الذي أصدر حزب البعث بحقه قراراً في 31 آذار (مارس) 1980 ينص علي إعدام كل من ينتمي إلي حزب الدعوة الإسلامية، وقد كان في طليعة من أُعدم مؤسس الحزب الإمام محمد باقر الصدر وأخته آمنة الصدر في 9 نيسان (أبريل) 1980. وإذا كان صحيحاً أن مثل هذه المطالعة لا تحظي بتأييد قيادة وقواعد وأنصار الحزب بسبب الجرائم التي ارتكبها البعث بحقهم، إلا أن الصحيح أيضاً أنها تؤشر إلي مدي وعي حزب الدعوة بمستقبل العراق، وطي صفحة الماضي مهما كانت مؤلمة، لأن من يفكر في بناء العراق ومستقبله عليه أن يطوي الماضي المؤلم ويتطلع إلي آفاق الوحدة الوطنية. علي المستوي العربي، استجاب نوري المالكي لاقتراحي في أن تكون أولى زيارته إلى المملكة العربية السعودية إذا تم انتخابه لرئاسة الوزراء، وهذا ما حدث، لكن ظروفاً إقليمية حالت دون قطف ثمار الزيارة، في الوقت الذي لم تكن حكومة نوري المالكي هي السبب الرئيسي فيها، إنما ظروف سياسية معقّدة في الإقليم والعراق الذي كان يخضع لقوات الاحتلال الأميركي وأيضاً لقواعد ترسم مسار رئاسة الوزراء والنظام السياسي الجديد. ولا نريد الدخول في تفاصيل ومشاكل السنوات الثماني التي شغلها نوري المالكي في رئاسة الوزراء، بقدر النظر إلي المرحلة الجديدة الراهنة التي تولي فيها حيدر العبادي رئاسة الوزراء العراقية والأجواء المريحة الداخلية والإقليمية والدولية التي رافقت توليه هذا المنصب الحساس. لا ينكر أحد أن العبادي ورث تركة ثقيلة علي المستويين الداخلي أو الإقليمي، فثلث الأراضي العراقية خارج سيطرة الحكومة، والعلاقة مع إقليم كردستان في وضع لا يحسد عليه، كما أن المشاكل الاقتصادية والخدمية المعقّدة تواجه عموم الشعب العراقي، وما زالت موازنة عام 2014 تنتظر مصادقة مجلس النواب ونحن علي أعتاب نهاية العام! في الوقت الذي لا تبشر العلاقات الداخلية بأي تطور إيجابي علي رغم دعوات المصالحة من هذا الطرف أو ذاك، ما يؤشر إلي عمق المشاكل التي تواجه حكومة حيدر العبادي. وبعيداً من الشعارات والدعوات العاطفية، فإن العراق يحتاج إلي قرارات شجاعة وجريئة قد لا ترضي البعض لكنها تساهم في بناء الدولة، وفي مقدم هذه القرارات تلك المتعلقة بالمصالحة الوطنية. خطت الحكومة السابقة خطوات تجاه المصالحة لكنها لم تستطع تأسيس قاعدة وطنية ترضي جميع الأطراف، كما أنها عجزت عن إيجاد مصالحة حقيقية لأنها كانت تصطدم بقانون «اجتثاث البعث» فالمكون السنّي شعر بأن هذا القانون يستهدف الطائفة السنّية قبل استهدافه أعضاء حزب البعث. العراق في حاجة الآن وفي الظروف التي يمر بها إلي إعادة الثقة لجميع المكونات العراقية، ويجب أن يتم العمل علي إزالة القلق أيضاً عند الطائفة الشيعية من إمكانية عودة حزب البعث للسلطة، كما أن الطائفة السنّية يجب أن تطمئن إلى أن لا أحد يريد استبعادها من الحياة السياسية والاقتصادية في العراق، في الوقت الذي تعطي فيه الثقة للأكراد بأنهم جزء من هذا الوطن من دون تمييز أو تهميش أو إقصاء. هذه الأفكار تحتاج إلي ترجمة علي الأرض بعيداً من الخطابات والبيانات والمؤتمرات التي سئم منها الشعب. هذه المهمة ليست مسؤولية حكومة حيدر العبادي فحسب، إنما مسؤولية مكونات وشرائح الشعب العراقي من عرب وكرد وتركمان، سنّة وشيعة ومسيحيين، لكن الأكيد أن الحكومة تتحمل قسطاً كبيراً من هذه المهمة لإيجاد أجواء تسمح للمكونات بالمساهمة في تعزيز الثقة داخل المجتمع العراقي. إن إلغاء قانون «اجتثاث البعث» الذي عدّل إلي قانون «المساءلة والعدالة» هو إحدي الآليات التي يمكن من خلالها زرع الثقة في نفوس العراقيين، لأن الرضوخ للأفكار المتطرفة واللامسؤولة وغير الواعية لمستقبل العراق تدخله في نفق جديد، وهذه الخطوة هي القاعدة التي تستند المصالحة الوطنية وتعيد صوغ الوحدة الوطنية العراقية إلى مواجهة التحديات. وفي تحدٍّ آخر لحكومة العبادي لا يبتعد كثيراً عن التحدي الداخلي، تشكل علاقات العراق مع محيطه العربي والإسلامي نقطة مهمة يجب أن تأخذ حيزاً كبيراً من عمل الحكومة، لأن تدهور هذه العلاقات خلال السنوات الأخيرة سبب كثيراً من المشاكل للعراق وللنظام الجديد. إن الدول الإقليمية تشعر بحرج من العراق الجديد، وما يدعو للأسف أن الحكومة السابقة لم تنجح في نقل الصورة الواقعية للعراق الجديد لدول الجوار وتحديداً للدول العربية. ماذا يريد الحكام الجدد من الإقليم؟ وكيف يريدون التعاطي مع هذه الدول؟ وعلي أي قاعدة يريدون بناء علاقاتهم الإقليمية؟ هذه الأمور ترتبط مع جميع دول الجوار إن كانت تركيا وإيران، أو دول مجلس التعاون الخليجي، أو بقية الدول العربية. أمام الديبلوماسية العراقية الجديدة فرصة لنقل الصورة التي يمكنها تعزيز الثقة مع المحيطين العربي والإسلامي، وهي مهمة ليست بالسهلة، لكنها أساسية في المرحلة الراهنة. هناك استحقاق آخر أمام حكومة العبادي يتعلق بالخدمات المقدمة للشعب العراقي وفي جميع المناطق. إن المافيا الاقتصادية والسياسية لعبت خلال السنوات الماضية دوراً مهماً في السيطرة علي مفاصل القرار، بالشكل الذي أدخل الفساد المالي والإداري إلي جميع هذه المفاصل والمراكز، وعلي حكومة العبادي أن تضع حداً لمثل هذا التدهور في الخدمات في ظل موازنة عامة تتجاوز 130 بليون دولار سنوياً. إن الاعتماد علي الكفاءات والخبرات العراقية المتناثرة في بلدان العالم، واستبعاد الفاسدين والمفسدين والجهلة من المتملقين والانتهازيين كفيلان بتوزيع الثروة العراقية علي كل المناطق. ولقد سبب تناحر رئاسة مجلس النواب مع رئاسة الحكومة خلال السنوات الماضية الكثير من المشاكل للشعب العراقي، ما فسح في المجال لتقليص دور المجلس الرقابي علي عمل الحكومة وبذلك أفرغ المجلس من مهامه الدستورية، والذي كان السبب في عدم المصادقة علي موازنة عام 2014 إلى الآن، وحرمان الشعب من فرص البناء والتقدم والتنمية. وهذا ما يحمّل مجلس النواب مسؤولية كبيرة في إعادة تفعيل دوره بما يتناسب مع الاستحقاقات التي تواجه المكونات والطوائف والقوميات العراقية.