عبدالله النغيمشي الحياة - سعودي الثورات دفعت بمسألة الديموقراطية إلى الحضور والصدارة، إذ هي المطلب الأهم للشعوب العربية، والتي كانت حلم أحلامها. انخرطت عامة الشعوب العربية في الثورات، والتي تلوث أكثرُها بمداد الدم؛ رغبةً في التحول عن مرحلة التقهقر والاستبداد الذي صنعته النخب السياسية ما بعد الاستقلال. النخب السياسية فشلت في تحقيق طموحات شعوبها بعد الاستقلال، وفشلت في التحول ناحية الدولة الحديثة، دولة سيادة القانون، لم تضحِّ الشعوب العربية في ثوراتها إلا بحثاً عن حياة كريمة، وقد جعلت طموحها البديل التحول ناحية دولة العدل والمساواة والحريات المتمثل بالديموقراطية. لم تعِ الشعوب أن سبيل الوصول إلى «يوتوبيا الديموقراطية» بعيد المنال، دونه خرط القتاد، كان دون الديموقراطية ثورات أهمها الثورة الفكرية، وذلك ما لم تبدأ به الشعوب العربية، بوصفه نتيجة للثورة الشعبية التي اتجهت لإسقاط أنظمة الحكم القائمة لا مقدمة لها، لم يكن ثمة بدائل مستحقة تقوم بحمولة توجيه واستثمار الثورات ونقلها من لحظة الثورة والفوضى إلى مرحلة بناء الدولة المأمولة (دولة الديموقراطية). في فراغ الثورات التي أطاحت بالنخب الحاكمة، لم تكن هناك تيارات منظمة غير جماعات الإسلام الحركي، والتي بدورها قفزت على المشهد، وقد انخرطت فيه أخيراً ومن الصفوف الخلفية، ولا يعني ذلك أنها ليست مكوناً أصيلاً في مجتمعاتها، كما ينظر إلى ذلك بعض الشوفينيين الآيديولوجيين. كان محل التأزم أن جماعات الإسلام الحركي التي طرحت نفسها بديلاً وخياراً بعد النخب السياسية المتداعية، دخلت في العملية السياسية من دون برنامج مدني حقيقي، وإن زعمت ذلك، إذ قابليتها للتحول للعنف، الأخطر -كما يحدث في بعض دول الثورات- يكمن في ضعف علاقتها بالخيار المدني الحداثي المتمثل بالديموقراطية. كتابات وتنظيرات قادة وزعماء الإسلام الحركي، كانت قبل الثورات (منذ تأسيسها) تنابذ الفكرة الديموقراطية، ومعها العلمانية؛ لإيمانها بأن شكل الحكم هو ما كان مستقراً في التاريخ وأدبيات الكلاسيكيات الدينية الفقهية (السياسة الشرعية/الأحكام السلطانية)، كان تماهي جماعات الإسلام الحركي في السياسة لحظة الثورات وتعاطيها مسألة الحكم يشي بعلاقة غير متسقة مع المنتج الحداثي في السياسة (الديموقراطية)، ولعل شاهد ذلك الجماعات التي وصلت إلى قمة السلطة في بلدانها، إذ تمظهرت علاقتهم بالديموقراطية بالتجافي، من خلال رغبتهم بالذهاب سياسياً ناحية الحكم الإسلامي الاستخلافي، من خلال محاولة التحايل على الديموقراطية وإغراقها بالأسلمة والتوطين الشرعي. ثمة مقدمات دينية وشرعية أصيلة في المنهج والرؤية السياسية لنمط الحكم لدى جماعات الإسلام السياسي الحركي، لا تقبل الاستعادة والجدل، تشكل ممانعة في التماهي مع الديموقراطية إلى حد القطيعة. الأولى: النظام الديموقراطي يعتمد آلية الاقتراع الشعبي العمومي، الذي لا يستثنى أحداً من الشعب، بمعنى أن الشعب هو المخوَّل في اختيار الحاكم، والفيصل صناديق الاقتراع، في عقيدة الإسلام السياسي فإن حق ترشيح الحاكم من حق أهل الحل والعقد فحسب، ولا يحق للعامة أن يتدخلوا في هذا الحق؛ باعتبار العامة دهماء لا يدركون الأصلح للأمة، وقد يتم استغلالهم وتوظيفهم، وأهل الحل والعقد كما في الأدبيات السياسية الشرعية هم (علماء الشريعة، ورؤوس الناس وأعيانهم، وأهل الشوكة والقوة) والبقية لا قيمة لرأيهم وصوتهم. الثانية: الديموقراطية تشتمل على قيمة المساواة بين الأفراد المواطنين (الذكر والأنثى/المسلم والذمي)، في الأدبيات الإسلاموية الرجل يفضل على الأنثى، وقيمتها هامشية تبعية في لاوعيهم، وهذا ما يتنافى مع الأدبيات الديموقراطية، كذلك في مسألة الذمي، إذ يعتبر إنساناً من الطبقة الثانية، ولا يمكن مساواته بالمسلم، وذلك ما يتنافى مع قيم الديموقراطية، التي تساوي بين الجميع بوصفهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. الثالثة: من أعلى قيم الديموقراطية المكفولة مسألة الحرية، التي تشتمل على حرية المعتقد وحرية التعبير والرأي والانتماء، وهذا ما ينابذ فقه الإسلام الحركي، الذي يحد من الحريات ويحاربها؛ لأن الإنسان في الأدبيات الإسلاموية مقيد الحرية (المعتقد/التعبير/الإنتماء)، ولعل مسألة قتل المرتد أوضح دليل على ذلك. الإسلام الحركي يتعبد بمحاربة حريات الآخرين، ويعتبر ذاته مسؤولاً في مراقبتهم ومحاسبتهم، كما الاحتساب في مضايقة الحريات والوصاية على الآخرين. الرابعة: تقوم الديموقراطية على أساس من فصل المجال الروحي عن المجال الزمني « العلمانية «، من خلال عدم تدخل الدولة في شأن الدين وتسييره وتوظيفه، وجعله شأناً خاصاً، بمعنى أن الدولة لا علاقة لها بالمؤسسة الدينية، كما أن الدين لا يمتلك الهيمنة في صناعة السياسة وعامة مؤسسات الدولة. طبيعة الحكم على طريقة الإسلام الحركي لا ينفك الزمني عن الروحي، إذ السياسة ضمن الدين، ولا يجوز انفكاكهما عن بعض؛ لأن الهيمنة في الحكومة الإسلامية للدين وليس للقانون، وكتابات الإسلامويين تكرس كفرية الحكم بغير ما أنزل الله، ولا تزال كتابات الإسلامويين عامة تعتبر العلمانية كفر بالله، إذاً كيف ستكون ثمة ديموقراطية في اللاوعي الحركي الديني من دون الأخذ بالآلية العلمانية، والتي هي من صميم العمل الديموقراطي، الخامسة: مفهوم تطبيق الشريعة المحدث الذي ينادي به الإسلامويون يتعارض جذرياً مع روح الديموقراطية. في هذا الصدد يقول علي بلحاج أحد أهم رموز جبهة الإنقاذ الجزائرية: (إن الديموقراطية سمٌ يتعارض مع الشريعة الإسلامية)، والديموقراطية -بحسب أدبيات الإسلام الحركي- ستحد من هيمنة الشريعة على المجتمع، وهو ما يعني عدم إمكان تطبيق الشريعة. السادسة: يقسِّم أتباع الإسلام الحركي العالم إلى دار كفر ودار حرب امتدادا للفقه القديم، وذلك ما تجاوزه هذا العصر عصر الدولة الحديثة المؤطرة بحدود إقليمية وعلاقات دولية لا مكان فيها لمنطق الإسلام والكفر والأديان، إذ الهيمنة لعالم المصالح والقوى والتحالفات، التي لا تعترف بمنطق الآيديولوجيا الدينية. في لحظة حكم جماعة الإخوان في مصر -أنموذجاً-، عقدوا مؤتمراً إسلامياً بخصوص سورية، دعوا فيه إلى النفير والجهاد في سورية، متجاوزين اللحظة العالمية التي باتت تقوم على التوازنات لا العقائد ما يحكي حضور الآيديولوجيا الحزبية الضيقة على حساب حس ومنطق الدولة الرفيع والنفعي. السابعة: تقوم جماعات الإسلام الحركي على أساس التراتبية والنظام الإستخلافي، الذي يعتمد فكرة الخليفة والخلافة، وهكذا هي هيكلة هذه الجماعات في أساس تكونها وحراكها، إضافة إلى أدبياتها وإطارها الذهني الذي يقوم على عقيدة الهرم الخلافي الشرعي، بما في ذلك نظام البيعة لرمزهم الذي يعتبر الأب الروحي، والذي يحمل في الحقيقة قيمة الخليفة الشرعي، الذي يدبر أمر الجماعة بما يراه بالنهاية عبر النظام الشوري الإسلامي الكلاسيكي، كل ذلك يتنابذ عملياً مع وعي وقيمة الديموقراطية، التي تباين جذرياً فكرة التراتبية الإستخلافية، وهو ما يعني تعذر قدرة أو إيمان الإسلامويين التماهي بالديموقراطية. (الحصاد) كتب بعض الدعاة والعلماء الحركيين عن العملية الديموقراطية خلال الثورات، ولاسيما مع الانتخابات المصرية التي نتج عنها فوز جماعة الإخوان المسلمين، وكانت لغونتهم تشي بعلاقة مضطربة مع مسألة الديموقراطية، لكنهم خَلَصوا إلى جوازها مع التلميح على حتمية مراجعة خطايا الديموقراطية بعد الوصول إلى سدة الحكم، وكان في ذلك تبييت لنية الوصول التي تنتهي بتفكيك قيم الديموقراطية بما يتوازى مع السياسة الشرعية كما في المدونات الفقهية الكلاسيكية، معتبرين الانخراط في العملية الديموقراطية محرماً وكفراً، لكن يستباح مرحلياً كأكل لحم الميتة للضرورة. أتباع الإسلام الحركي يعتبرون الديموقراطية حكماً بغير ما أنزل الله، كما تؤكد ذلك كتاباتهم عبر تاريخهم الطويل، وهذا ما يجعل تعاطيهم مع مسألة الديموقراطية مصدراً للإشكال. هاجس الأسلمة هو المسطرة التي يستخدمها الإسلامويون حال انخراطهم مع أي منجز وقيمة حديثة مباينة لعقيدتهم السياسية أو الدينية أو الاجتماعية، وذلك ما كانوا يستضمرونه حيال قيمة الديموقراطية، وهو ما يعني بالنهاية انكفاءهم عن الديموقراطية.