مكة أون لاين - السعودية ليست النفس البشرية إلا مجموعة من المشاعر المركبة، تختلط هذه المركبات بدماء وجسد لتكون كائنا حيا يشم الورد ويسمع الصوت العذب ويرى جمال الطبيعة الساحر. وأما اللحم والدم والعظم فهي أعضاء تغدو أشباحا لا قيمة لها في لحظة سريعة، فنحن نعيش بأرواحنا ومشاعرنا، نعيش بحبنا وسعادتنا، نتجرع أحيانا شقاء وبؤسا ونحتسي أحيانا نشوة الفرح، نعيش بخوفنا وأمننا، وأما أجسادنا فسوف ترمى تحت التراب في لحظة فقدان تلك القوة المحركة للهيكل العظمي والعصبي وهي قوة الإدراك والحس. لا يلام الإنسان السوي على الحب، وإنما اللوم على فقدان المشاعر المرهفة والقوية، وليست اللحظات السعيدة إلا مجموع حياتنا القصيرة، وليست الآلام إلا محطات للإحساس بقيمة الصفاء والنقاء. ليس الحب في عالم الأقوياء عيبا، بل هو من الصفات التي تدل على جمال القوة واكتمال الشخصية، فعندما يحب الشخص فذلك أمر محمود، وليس ضعفا يوجب إسقاط الشخص واتهامه. فيعقوب عليه السلام نبي كريم بلغ به البكاء من الحب لولده أن فقد عينيه، وفقده لعينيه من كثرة البكاء وطوله بسبب الحب الذي لا نستطيع أن نسميه مفرطا لعدم وضوح المقياس الذي نقيس به. ومع ذلك لم يسلب الله عنه صفة النبوة لأجل الحب الذي أفقده بصره، ولم يعتبر الحب الشديد ضعفا لا يستحق المرء معه حمل أعباء النبوة. وإذا تعجب الناس من فقده لبصره بسبب البكاء المتواصل الكثير، فإن العجب الأكبر من هذا النبي الكريم هو عودة البصر إليه بسرعة خاطفة، بسبب إلقاء قميص المحبوب على وجهه. قد يقال إن حب يعقوب حب من النوع العادي يصدر من كل أب للابن، ولكن هذا القول يصطدم بعقبة كؤود، إذ إن يعقوب عليه السلام لديه أحد عشر ولدا غيره، بإمكانه أن يقسم بينهم المحبة، بإمكانه أن يساويها تماما ببقية أولاده، فلماذا زاد حب يوسف بالتحديد في قلبه؟ لماذا انفرد هذا الفتى بحب فائق لم يسمع في التاريخ بمثله، وهذا هو السؤال الذي حير الناس في الحب بجميع أنواعه، كيف تسري حرارته في القلب؟ ومتى يتغلغل إلى الأحشاء والجسم؟ ومتى يذهب؟ فما يحدثه الحب، الذي مقره في النفس، من أمراض عضوية حقيقة نطقت بها الكتب السماوية قبل الأطباء القدامى والمعاصرين، وأثبتها الله في كتابه لتكون عظة وعبرة. ولذلك، بإمكانك وأنت تقرأ قصة يعقوب عليه السلام أن تجيب على السؤال العربي الشهير (هل يقتل الرجل الحب؟). فإذا فقد نبي بصره بسبب الحب والوجد وما سببه الفراق من كمد وأسى، فقد يفقد بشر مسكين لا يملك من القوى العلمية والدينية ما يقوى به على متاعب الحياة أكثر من ذلك، فربما فقد المرء العادي توازنه أو عقله أو غير ذلك. وإذا تأمل المرء طلب نبي كريم تجاوز الستين من عمره زيارة قبر الأم التي يحبها، فيقف على قبرها، ويتذكر صدرها الحبيب، يتذكر حنانها وشفقتها وقبلاتها، ثم يجهش أمام أصحابه باكيا، ولم يزل يبكي حتى يبكي من حوله لبكائه وشفقته. لم يكن هذا ضعفا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه صفة كمال، لأنه قدوة للأجيال ومضرب الأمثال وقد كان لنا في رسول الله أسوة حسنة. وعندما تتحدث المشاعر والخواطر يصعب أن يكبتها الإنسان، والعاقل هو الذي يستطيع توجيه ذلك وليس كبته، والكبت ليس حلا في كل الأحوال بل هو عجز أحيانا، وإنما العقل هو حسن استخدام تلك العاطفة. حتى مع أزيز الطائرات وعصف المدافع، فالقلب الصادق لا يسلو عن حبيبه، ولا زالت قصص الأمم والشعوب تتلى في أخبار ذلك. وليس الحب المحمود كالحب المذموم، ولا زال المحبون صامدون رغم خراب أوطانهم أو تشتت ديار أحبابهم أو قسوة المجتمع حولهم، فالقلب الصادق لا ينسى رغم الآلام والمصاعب.