عبدالله بن عبدالكريم السعدون* الحياة -سعودي بعد أشهر معدودة ينقضي ربع قرن على مطالبة المرأة السعودية بالقيادة، تعبر القضية عن هموم مجتمع متأخر، إلا أنها تعبر بشكل أكبر عن مشكل في استراتيجيات التغيير وخطابه. قلما تجد لهذا الحراك نقداً ذاتياً، وغالب ما يكتب يقع بين نقد المعارض أو دعم المؤيد. في 100 عام تزيد قليلاً، خاضت المرأة في أوروبا صراعاً بدأ بجدل ما إذا كانت «شخصاً» من عدمه، وانتهى إلى ما تحقق اليوم. في 1843، إيزابيل بومفري، صاحبة واحدة من أشهر الخطب التاريخية بأميركا «أولست امرأة؟» قررت الهرب من العبودية وتغيير اسمها لتكرس حياتها في مكافحتها. لم يمض عقد حتى انتشرت في طول البلاد وعرضها أدبيات فريدريك دوغلاس، الأفريقي الهارب هو الآخر أحد الرواد في تفنيدها، لتنفجر بموازاتها الأعمال التاريخية الخالدة ككوخ العم توم، و«كلوتيل» كأول رواية لأميركي أفريقي، واشتعلت الأغاني الشعبية المناهضة للعبودية لتؤسس ثقافة غدت من أعمدة التراث الوطني. فما لبث أن صدر قانون الحقوق المدنية، ليصبح ريفيلز أول عضو أسود بالكونغرس. 25 عاماً فقط، انتقل فيها الأسود من عبد لا يمتلك إرادته إلى ممثل لإرادة الأمة! مطلب قيادة السيارة حراك المرأة الأول والأبسط بالسعودية، الذي تحول إلى الأكثر استعصاء. كل حقوقها المكتسبة كالهوية الوطنية أو التعليم أو الابتعاث أو عضوية المجالس الرسمية تم تحقيقها بقرار الدولة. القيادة كان حراكها المجتمعي (الرمزي) الأول الذي ليس للدولة منه موقف بعد أن أعلنت المسألة شأناً مجتمعياً، وغالباً حين لا يكون للدولة موقف فإنها تجنح إلى البنى التقليدية، طالما لم يستطع التغيير اكتساب قوة حقيقية. في ظل هذا الوضع، ركز خطاب قيادة المرأة بمنطق غير مفهوم، على قانونيته. ثقافة المجتمع ليست ثقافة نصوص قانونية، وفي تفاعلاته البينية لا تشكل الأنظمة القانونية معيار الصواب والخطأ في المزاج الاجتماعي، وبغض النظر عن حجة عدم وجود قانون يمنع قيادة المرأة، التي تتجاهل أن انعدام النص القانوني هو ما يمنح العرف القوة القانونية، والصراع هو مع العرف ابتداء، إلا أنه وبكل الأحوال لم نر جهوداً لاستصدار قانون يسمح بالقيادة عبر الدوائر التشريعية أو أحكام قضائية، ولا حتى استغلالاً لتوسع وجود المرأة في مؤسسات الدولة ك«الشورى» وغيرها في تطبيع الفكرة. ضعف ثقافة المجتمع المدني وبنيته يجعل المجتمع متعلقاً بأهداب السلطة في صراعه البيني. المطالبات المجتمعية فعل سياسي تشكلاً وبلورة وتطوراً، وهي تفاعلية تستجيب للمؤثرات، وتستخدم أدوات مدنية كالمقاطعة والتطبيع والضغط، وهي مرنة تقوم على التفاوض، وتستخدم السياسة فناً للممكن لتحقيق الاستحقاقات عبر بناء أرضية مشتركة يطاول تأثيرها حتى المخالف ليتفاعل معها، وهي براغماتية ومتدرجة لا تتحقق جملة، ومرحلية تتعزز فيها المكاسب بحسب خطط تتناسب مع تطور المجتمع. كل المجتمعات تمارس السياسة حتى التقليدية منها، الفرق فقط يكمن في الأدوات والأقنية. ويضعف التأثير بضعف ممارستها، فهي فن من فنون المدنية، وطالما الذهنية المجتمعية التي يرسخها قادة المجتمع ومثقفوه لا تزال تتعاطى مع السياسة بمنطق الاستعاذة بدلاً من ترسيخها ثقافياً كفن يحول المستحيل إلى الممكن، فلا نتيجة لأي حراك مدني. لهذا لم نر سيدات مجلس الشورى والمجتمع يشكلن وفداً تفاوضياً يمثل هذا الحراك ويتحدث باسمه، ويلتقين سماحة المفتي مثلاً وأقطاب الممانعة لمحاولة التوصل إلى حلول توفيقية تكسر الجمود، وهكذا لم يقمن بجولات لحشد الدعم من الشخصيات المجتمعية، وها هنا لم نر محاولات لتهيئة أرضية مشتركة أو شبكة علاقات تفاعلية لخلق توافق مجتمعي، وبهذا لم تُخاطب مخاوف الطرف الآخر مثلاً للتعبير عن الرغبة في إرادة جمعية. جزء من المعركة كان ينبغي خوضه داخل التيار الديني، ظهور القضية كمعركة بين التيار الديني وخصومه موقف افتقر للحصافة في ما قبل، إذ كان استعداء الحراك لهذا القطاع العريض المتنوع بدلاً من استخدامه في استراتيجيات التغيير ألحق ضرراً بالقضية، بل حتى وهو يعتبر رجال الدين خصمه الأول، لم يتواصل معهم، ولم يحاول تحييد تأثيرهم بطرائق استراتيجية، واكتفى بتجاهلهم والتحدث إلى السلطة. وهو إذ يفعل ذلك، بدا وكأنه يرى رجال الدين عنصراً أوحداً بالمجتمع، متجاهلاً أعمدة أخرى قبلية ورجال أعمال ونخب ثقافية، وكل واحد من هذه الأعمدة تتفرع منه تشعبات تتيح هامشاً كبيراً للحشد والتجاذب والتحرك في داخل كل منها بما يخدم القضية، لو كانت هناك استراتيجية حقيقية! فكان من نتائج كل ذلك أن ترسخ الحراك في ذهن المتلقي البسيط كقضية فئوية آيديولوجية بدلاً من أن تكون قضية المجتمع، وهو ما تتحمل جهات الحراك بتوظيفاتها واختياراتها جزءاً من مسؤولية عدم تغيره. إقحام القضية في معارك فكرية كبرى بدلاً من النأي بها عن صراعات لا تخدمها أسهم في انقسام المجتمع تجاهها، وانقياد النسوة خلف هذا التيار أو ذاك صنع منهن أحجار شطرنج. كان بالإمكان القضاء على الاستقطاب لو برز طيف تعددي من مختلف التوجهات داخل إطار الترويج للحراك، إلا أن الوجه الغالب على القضية ما برح يظهر من فئة محددة. في مقابل هذا، قلما تجد كتباً، أغاني، موروثاً شعبياً فنياً، إبداعاً جاداً منعكساً عن الثقافة الشعبية يؤرخ لهذا الهم ويخلد تفاعلاته الاجتماعية. هذا الجهد المفقود أسهم في تحجيم الحراك وتحويله لقضية موسمية وحسب. خطاب الحقوق تنموي، يحاول معرفة مفاتيح المجتمع ويستمزج الأفكار المختلفة ويحللها ليفهم مضمونها، ويتفاعل معها بشكل مستمر ويدمجها، ليصبح خطاباً شاملاً يحظى بتأييد الغالبية، ويجعل من المجتمع لا الدولة ركيزته الأساسية وحاضنته الطبيعية. لا أجد في غابة الدوريات البحثية والعلمية مجلة متخصصة تهدف إلى تنمية الوعي بحقوق المرأة، تستكتب فيها المرأة لتناقش قضاياها وتعبر عن همومها، ولا موقعاً متخصصاً أو دورية تعنى بحقوقها تتعرض بالرصد والتحليل وتشكل قاعدة بيانات لأدبيات حراكها ومواقفها، ويكون مرجعاً لفهم موقف الرأي العام من قضايا المرأة الحقوقية. بعد 25 عاماً، لم نر قدرة تحليلية تطور خطاباً فاعلاً ومنظماً ينشر مفردات مبتكرة لتطوير الوعي بهذا الحراك يتجاوز التكرار والتلقين. لم نر خطاباً محفزاً على التفكير، ومبتكراً يحاول تغيير منطق التداول ويوجهه بشكل يخدم القضية. لطالما بقي خطاب هذا الحراك متماهياً مع خصمه، ويشاركه في اعتبارات قوامها أن المجتمع غير أخلاقي وغير جدير بالثقة، فيطرح قضية القيادة كحل لتحجيم خطر الاختلاط، ولترسيخ ذلك يتعرض بالتشويه للعمالة الوافدة باعتبارهم كائنات مجرمة بطبيعتها، حتى تشكل قيادة المرأة أمامها ضرورة حمائية. خطاب لا يستطيع تعزيز شرعيته إلا بتشويه فئات مجتمعية أخرى ليس خطاباً حقوقياً! وهو في خضم ذلك يتصادم مع ذاته، إذ يقدم الاختلاط خطراً يقضي عليه بقيادة المرأة، ثم ما يلبث أن ينقض ذاته ليتبنى الاختلاط في عملها الذي تخرج إليه بسيارتها. من جهة أخرى، الشخصيات المقدمة الناطقة بالخطاب جزء منه. ثمة شخصيات تصلح لإثارة الجدل ولفت الانتباه، لكنها لا تصلح لأن تكون رموزاً للقضية، ناهيك عن إدارتها. من يحلل ردود الفعل المجتمعي يجدها تتأثر بشخص الفاعل غالباً أكثر من نوع الفعل. لذا فإن تصدر المشهد كله هذه الأيام شخصيات لا تحظى باحترام قطاع عريض من المجتمع الأوسع (بهدف التأثير)، ولا تحمل ثقافة تناسب حجم الحدث أو قدرات تمنح القضية اهتماماً جدياً، هو مؤشر على عدم نضج الحراك استراتيجياً، إذ لا يزال يراوح مكانه منذ التسعينات في خطط «إلقاء حجر في مياه راكدة»، بوقت يفترض به أن يكون تجاوز مرحلة الاستفزاز. منطق التحدي التحفيزي مهم في بعض مراحل الصراع، لكنه ليس منطقاً لإدارة الصراع، كل الصراع، ناهيك عن ابتكار الحلول. لم نر مشروعاً اجتماعياً سياراً عبر المدن يعبر عن الحراك ويروج له، ولا محاولات لاستقطاب الشخصيات التي تحظى بتقدير المجتمع لخلق زخم أكبر للحراك الذي لا يزال شخصياً وعشوائياً مكروراً، وهو طوال مسيرته يستهدف الضغط على سلطة الدولة لتفرضه بدلاً من التفاعل مع المجتمع المعارض، ولهذا يجد نفسه دوماً مرتطماً بجدار لا معنى للارتطام به! الكل يتطلع إلى الدولة لا إلى شريكه في المجتمع، ويفضل المنطق السلطوي الأسهل للحصول على ما يريد بدلاً من البناء المجتمعي القائم على الإقناع والتفاوض والحشد وبناء الأرضية التي تحقق المنفعة المشتركة. قبل عامين، أصدرت السيدات الفضليات رائدات الحراك عام 1990 كتاب «السادس من نوفمبر»، من يقرأ الكتاب سيستشعر كيف أنه مشحون ضد قطاع محدد، ويتوجه بالجهد نحو سلطة الدولة المحددة، وكأن البلاد تتكون من الثالوث (نساء، مؤسسة دينية، والدولة «ولي الأمر»)، فقط ولا أحد من طرفي المجتمع يثق بالآخر أو يتحدث إليه، بشكل يتقاطع حتى بمفردات الخطاب مع ما يتم تداوله اليوم. هذه القضية تعبير عن أزمة مجتمع لا يثق بذاته ولا ببعضه البعض، ويرفض التعامل مع بعضه الآخر، ولا يبدو أنه قادر على ذلك! عام 1955، قررت فتاة مراهقة لا يعرفها أحد تدعى كلوديت كولفين الالتصاق بكرسي في حافلة بمونتغمري رافضة إخلاءه لسيدة بيضاء، وعلى رغم انبهار قادة الحقوق السود بالفكرة إلا أنهم أبقوا الحدث طي الكتمان، لأن الفتاة وعلى رغم قيامها بالعمل الفريد لم تكن ملائمة لخدمة القضية لافتقارها إلى قدرة مواجهة الخطاب المعادي، ناهيك عن ضعف جاذبيتها الاجتماعية لكونها حبلى في مراهقتها، وهي عوامل لا تؤهلها لتحظى بالقبول وفقاً لأعراف المجتمع، ولا لتكون النموذج الأمثل للوجه الاجتماعي للحراك. بعد أشهر قليلة فقط، قامت روزا بارك بتكرار المشهد بحذافيره في المدينة ذاتها وبالسيناريو نفسه، هذه المرة فقط تحت بصر الإعلام وتحفز قادة الحقوق. ما لا يعرفه الكثير ممن يردد اليوم: «لا يوجد قانون يمنع قيادة المرأة»، أن جماعات الحقوق المدنية كانوا يحملون حكماً من المحكمة الدستورية العليا بلا قانونية الفصل العنصري، إلا أنه لم يكن ليغير بالواقع الاجتماعي شيئاً! من هنا كان نضال الحقوق يخوض معاركه داخل المجتمع، وشخصياته تجوب المدن وتلتقي القادة المحليين قبل مفاوضة السلطة التنفيذية! لم يمض عقد حتى أصدر ليندون جونسون قانون الحقوق المدنية المكمل، الذي شكل حجر الزاوية في مكافحة الفصل العنصري. لن تكون قيادة المرأة أكثر تعقيداً من العبودية، وخصومها بالمجتمع ليسوا أقوى من خصوم إيزابيل تروث، التي هي ليست أقوى من المرأة اليوم! * كاتب سعودي. Alsaadoun_A@