تحبس المرأة اليوم أنفاسها في انتظار القرار التاريخي الذي قد يتأخر لأيام أو لأسابيع أو لشهور / أو حتى لسنوات!، ولكنه آتٍ لا محالة؛ مهما كان عنف ممانعة تيار المتطرفين لدينا. فقيادة المرأة لسيارتها هي مسألة حق بدهي، مسألة لا تحتمل من ترف النقاش أكثر مما احتملت، خاصة بعد أن أصبحنا بسسبها فرجة للعالم الذي يبدو مُندهشاً من هذا التمييز الصارخ، هذا التمييز المتحدي، هذا التمييز اللاأخلاقي واللامعقول ضد المرأة في أبسط وأوضح وألزم حقوقها، بل في أبسط وأوضح حقوق الإنسان. لقد طال الجدل على شيء لا يحتمل شيئاً من الجدل، ناهيك عن أن يحتمل كل هذا الجدل العبثي، الذي يبدو كغبار خانق يثيره المتطرفون في فضائنا الحقوقي كل يوم؛ لمجرد إثارة الغبار، دون أن تكون ثمة معركة حقيقية حقوقية أو دينية تستحق كل هذا العناء الجدلي لقد طال الجدل على شيء لا يحتمل شيئاً من الجدل، ناهيك عن أن يحتمل كل هذا الجدل العبثي، الذي يبدو كغبار خانق يثيره المتطرفون في فضائنا الحقوقي كل يوم؛ لمجرد إثارة الغبار، دون أن تكون ثمة معركة حقيقية حقوقية أو دينية تستحق كل هذا العناء الجدلي. لكن، هل صحيح أن ليس ثمة معركة في سياق هذه الممانعة الهوجاء التي يبديها تيار المتطرفين؟، وهل لا بد أن تكون المعركة واضحة فيما هو معلن في تفاصيل الجدل المتشنج الذي يُذكي أواره هذا الحراك المتطرف بين الحين والآخر على ضفاف هذه المسألة الاجتماعية؟ بمعنى، هل المعركة لدى تيار المتطرفين محصورة في ثنائية القيادة من عدمها، أم لذلك ارتباط بمسألة أكبر وأعم، مسألة ترتبط بمشروعية التحكم بالمرأة، والهيمنة عليها من وجهة نظرهم الغارقة في مستنقع مخلفات عصور الظلام؟ في أكثر من مقال سابق أشرت إلى الحيثيات الجدلية التي يتكئ عليها تيار التطرف في تجريد المرأة من معظم حقوقها الإنسانية، ومنها حقها في القيادة، وقد بدا واضحاً آنذاك أن كل مَحاور الجدل تفترق؛ لتلتقي على هدف واحد، هدف يتراءى واضحاً من خلال تفاصيل ما يبرر به المتطرفون منعهم المرأة من الاستقلال. والهدف كما يبدو جلياً هو منع المرأة من الاستقلال بنفسها كذات إنسانية حرة مسؤولة كالرجل تماما . إذن، الإشكالية ليست محصورة في ثنائية: (تقود/ لا تقود)، وإنما هي أبعد من ذلك بكثير، إنها مفتوحة على ثنائية أكبر وأعمق وأشمل، وهي ثنائية:(المرأة إنسان كامل/ المرأة إنسان ناقص)، ومن خلال تحديد الموقف من هذه الثنائية الحاسمة تتفرع كل التصورات، وتتخلّق كل المواقف، المعقولة واللامعقولة في آن. الذين يرون المرأة إنساناً كامل الإنسانية، ومن ثم كامل الأهلية، يؤيدون منح المرأة كامل حقوقها التي تتساوى فيها مع الرجل تماماً، وينتفضون هَلعاً ورُعباً وغضباً من كل هذه الانتهاكات اللاإنسانية التي تنبع من تصور المرأة إنساناً ناقصاً يجب أن يُستعبد، ويُخضع للطاعة العمياء، ويُمنع من معظم حقوقه في الفضاء العام، تلك الحقوق التي أصبحت مشروعية عالمية بامتياز. أما أولئك الذين يرون المرأة إنساناً ناقص الإنسانية، إنساناً هامشياً، تابعاً، ذليلاً، غير مؤهل للتصرف المستقل، ومن ثم يرونه ناقص الأهلية، فهم يؤيدون منع المرأة من كل حق يسمح لها بالانفتاح على الفضاء العام، وهو الفضاء الذي تتمايز فيه الحقوق على نحو واضح. هؤلاء هم المتطرفون المتزمتون القابضون على جمرة الإرهاب المجتمعي، وهم الذين ينتفضون رعباً وهلعاً وغضباً، ولكن ليس لما يرونه من انتهاكات صارخة تطال الحقوق الإنسانية للمرأة، بل على العكس من ذلك، إذ إنهم ينتفضون رعباً وغضباً لما يرونه من تقدم إنساني في شأن التعاطي الحقوقي مع المرأة، وتقلقهم كل بادرة قانونية يشمّون منها أن المرأة قد تدلف منها إلى فضاء التحرر والاستقلال من عبودية مجتمع الرجال. على الخط الفاصل بين (منع) المرأة حقوقها، و(منح) المرأة حقوقها، يتصارع تياران هما الأعلى صوتاً في مجتمع الصمت، حيث تقف الأغلبية موقفاً سلبياً من حيث تحديد خيارها في مثل هذا الصراع؛ مع أن نتائجه المحسومة سلفاً لصالح تيار التقدم الإنساني تطال حياة الجميع. جماهير الأغلبية ينتظرون بفارغ الصبر قرار الحرية، دون أن يتقدموا بخطوة فاعلة تدعم استصدار مثل هذا القرار الذي سيجعل حياته أسهل وأجمل. هم يريدون ويأملون، ولكنهم خائفون من التعبير عن مرادهم وعن آمالهم. ومصدر خوفهم انغلاقهم وذوبانهم في فضاء الصمت الخانق الذي يستغله المتطرفون لصالحهم، ويظهرونه بعتماته المحايدة ظاهرياً وكأنه فضاء تأييد لهم. هؤلاء الصامتون ينتظرون من يُعلّق الجرس، ينتظرون في أعماقهم القرار التاريخي بتحرير المرأة من أبرز صور العبودية فجاجة على أحر من الجمر، ولكنهم يرهبون التعبير عن آرائهم كمتحررين من القيد الاجتماعي الذي يخنقهم المتطرف به، ويوحي لهم بإرهابه الوعظي / الإعلامي أنهم يخرقون السفينة الاجتماعية فيما لو أقدموا على مثل هذا التحرر الاجتماعي البسيط. الأغلبية الساحقة لا تعبر عن رأيها صراحة، ولكنها في الوقت نفسه تنتظر القرار التاريخي ليزيح عن كاهلها نير الارتهان لتصورات ماضوية ممعنة في تزمتها وتطرفها، تصورات لا يوجد مثيل لها في العالم كله، تصورات لم تجرؤ حتى حركة طالبان على المناداة بها، تصورات تُظهر المؤيدين لها فضلاً عن دعاتها في صورة المنبوذين من العالم أجمع، أو في صورة النابذين للعالم أجمع، لا فرق! إن هذه الأغلبية لن تظهر تأييدها المطلق والكامل للقرار التاريخي المتمثل في السماح للمرأة بحق القيادة، إلا عند صدور القرار. وحينئدٍ ستبدي تأييدها العملي، وهو أقوى أنواع التأييد، إذ ستشرع في التنفيذ فوراً، وسترمي بذلك القيد الوهمي الاستبعادي الذي فرضه المتطرفون بقوة نفوذهم الاجتماعي، ولن تلتفت إلى الوراء إلا لازدراء مرحلة تاريخية كانت المرأة فيها ممنوعة من حق إنساني مشروع، حق وقف ضده تيار طالما أوردنا الهلاك (كما بدا في تثويره المباشر وغير المباشر للحراك الإرهابي)، وطالما فوّت علينا الفرص التنموية، ووضع العراقيل تلو العراقيل أمام أي تحرر إنساني. لم يعد الوضع الإنساني للمرأة يحتمل كثيراً من الانتظار، لن تصبر المرأة على هذا النزيف اليومي لحقوقها، دون مبرر؛ إلا مراعاة خواطر المتطرفين الذين لم ولن تكون هذه الممانعة يتيمة في مضمارها. هؤلاء المتطرفون أصبحوا حجر عثرة، بل أصبحوا سداً متحركاً، يجعلنا نتأخر في قراراتنا عن استحقاقاتها لعشرات السنين. فقرار كهذا (قرار السماح للمرأة بالقيادة) كان يجب أن يصدر وبسلاسة، ودونما صخب أو غضب منذ أكثر من أربعين سنة على الأقل. ما يعني أننا أهدرنا من أعمار نسائنا أكثر من أربعين سنة؛ كيما لا يغضب هؤلاء الذين يعيشون خارج التاريخ؛ حتى وإن كانوا يتسابقون إلى الدخول إليه في الوقت الضائع، أو في الوقت اللامشروع! كلنا، وبلا استثناء(حتى تيار المتطرفين بدأ يتجرّع مؤخراً مرارة هذه الحقيقة)، ندرك أن المسألة محسومة، وأنها حق بدهي تأجّل أكثر مما يجب، وأن حلها آتٍ لا محالة، وأن كل امرأة ستمتلك حق القيادة عما قريب. ولكن، ليس كل هؤلاء يدركون حجم الفاتورة التي ندفعها من إنسانيتنا ومن أوقاتنا ومن اقتصادنا ومن سمعتنا الدولية ثمنا لمثل هذا التأجيل. الغريب في هذا الأمر: أي في كون هذه المسألة محسومة، وأن القرار التاريخي آتٍ لا محالة، أنه لا يُستخدَم في الاتجاه الإيجابي من المسألة، أي لا يستخدم في تدعيم الإسراع باتخاذ القرار، على اعتبار أن حتميته تحكم بعبثية تأجيله أكثر من هذا؛ لظهور الصواب ولاتضاح حركة التاريخ. بل يستخدمه بعضهم في الاتجاه المعاكس، أي للاسترخاء وعدم المطالبة، على اعتبار أن الزمن كفيل بحلها دون تدخل، دون تعب، دون مجابهة مع تيار التطرف؛ وكأننا لا ندفع أي ثمن لتأجيل هذا القرار المرتبط بحياة ملايين المواطنين والوافدين، بل وكأننا لا ندفع أي ثمن من سمعة هذا الدين. إن كون المسألة محسومة لا يعني تأجيلها، فمثل كل الحقوق، لا يتحرك هذا الحق إلا بوجود محركين له، معضودين بقوة دفع حركة التاريخ. حتى الحركات المناهضة للعبودية وللتمييز العنصري لم تتحرك على نحو تلقائي، لم يقف المعنيون بها موقف المتفرجين المنتطرين لقرار من هنا أو قرار من هناك، بل عملوا وبأقصى صور التضحية على تحريك الراكد، على هزّ الضمير الإنساني. ولك أن تتصور فيما لو أن مارتن لوثر كنج قبع في بيته يمضغ أحلامه اليائسة في صمت الباحث عن السلامة، وانتظر أن تجود الحكومة الأمريكية من تلقاء نفسها بحقوق المساواة الكاملة، على اعتبار أنها حقوق بدهية، واضحة، محسومة، آتية لا محالة، هل كان سيقف باراك أوباما على هرم السلطة بعد أقل من خمسة عقود، وهل كانت ستتغير حياة ملايين السود، وتنقلب من حال إلى حال. نعم، ربما كانت حقوق المساواة ستأتي لا محالة في مستقبل الأيام، لكن، قد يكون ذلك بعد قرن أو قرنين أو ثلاثة، وبعد سقوط ملايين الضحايا على قارعة طريق العبودية الطويل (والعبودية ليست صورة واحدة، بل تعيش المرأة في دول العالم الثالث مستويات متباينة من العبودية الصارخة)، والمهم أنها (المساواة / الحرية ) لن تأتي حتى في هذا الزمن المتأخر دون أن يقف وراءها المنافحون الأفذاذ المنطوون على ما يتجاوز أنانية الأفراد. يقول كثيرون: إن هذه المسألة (قيادة المرأة) التي تم قتلها جدلاً، هي مسألة تافهة، وهامشية، ولا تستحق أن تناقش على هذا المستوى من الاهتمام وكأنها من القضايا المصيرية الكبرى. ويبالغ آخرون، ويرون (بحسن نية أو بسوء نية) أن مجرد نقاشها يضعنا موضع السخرية أمام العالم، إذ تبرز كما يتصورون تفاهتنا لتفاهة قضايانا، عندما تبدو على هذا النحو من البساطة والتفاهة والهامشية التي تبعث على السخرية في معظم الأحيان. هكذا يقولون. وفي تصوري ان المسألة ليست تافهة ولا هامشية إلا عند تلك الشعوب (وهم هنا: كل شعوب الأرض، بلا استنثاء!) التي تجاوزتها، بل التي لم تمر بها قط. وبهذا لم تفهم معنى وجودها كمشكلة من الأساس. أما نحن فهي بالنسبة إلينا مسألة تمس كل جوانب الحياة، مسألة فاصلة بين إنسانية منقوصة وإنسانية كاملة، هي كالحرية لا تدرك قيمتها إلا بفقدانها. بتخيل العبودية، باستشعار أجوائها التي كانت قبل قرون تخنق حياة الملايين، تعرف طعم الحرية التي قد لا تحس بطعمها الآن؛ لأنك تعيشها، ولا تتصور مجرد تصور الحياة بدونها. لندرك محورية هذه المسألة في حياتنا، لنا أن نتخيل أننا كرجال ممنوعون من قيادة سياراتنا، وأننا لا نتحرك إلا بسائق أجنبي، كيف ستكون حياتنا؟، ألن نشعر بنوع من الإعاقة، بل وبالإعاقة التامة، وأننا مقيدون بألف قيد وقيد؟ ألن نشعر حينئذٍ بأن كل ظلم الأرض قد وقع علينا؟ فلماذا يتختلف الوضع عندما يتعلق الأمر بالنصف الآخر من مجتمعنا المظلوم في كثير من هذه الحقوق؟ إن المسألة ليست هامشية بالنسبة للمرأة، كما أنها وإن كانت تخص المرأة ليست هامشية بالنسبة للرجل. إنها مسألة اجتماعية عامة، إنها مسألة من شأنها أن تعيد برمجة المجتمع من أساسه، وأن تعيد صياغة كثير من أنماط الحياة الاجتماعية على نحو جذري. ولهذا يقف المتطرفون لهذا الحق الصريح بالمرصاد؛ لأنهم يدركون أنها في أبعادها وتداعياتها ليست مسألة هامشية لا علاقة لها بالحقوق العامة للمرأة، إنهم يعون أنها ستعيد تنظيم مسيرة الحقوق بأكملها، بحيث تصبح المرأة إنساناً كامل الأهلية، يمتلك حق التصرف، وغير خاضع في أي من احتياجاته الأساسية لمجتمع الرجال. وهذا ما لا يرضون به بأي حال من الأحوال. المسألة مسألة حقوقية لا تحتمل الجدل، ولا مجال فيها للاستفتاء، ولا للعرض على مجالس شورية أو غير شورية؛ لتمارس ترف التوصيت على سلب الحقوق أو على منحها. هي مسألة حق منقوص، حق يجب رده إلى صاحبه فوراً، حق مشروع بحكم كل شرائع السماء وكل قوانين الأرض، حق يولد مع الإنسان، أي إنسان، بصرف النظر عن جنسه ذكراً كان أم أنثى. ارتباط هذه المسألة ببدهيات الحقوق الإنسانية العامة، تسقط مراوغات المتطرفين الذين يربطونها بشكل أو بآخر بالدين. الدين لا علاقة له بهذه المسألة، لا من قريب ولا من بعيد. وبهذا، فاستدعاء المتطرفين للحجج الدينية الشرعية تشويه غير واعٍ للدين، بل هو كشف صريح لحقيقة مذهبهم الخاص الذي يتميّزون به عن بقية المسلمين؛ لأن ربط المنع بمبررات شرعية يعني أن كل المسلمين في كل بقاع الأرض قد انحرفوا عن دينهم، وأن علماءهم الذين لم يُحرّموا ما حرّمه المتطرفون لدينا ضالون مُضلون، أي أن بضعة آلاف من المتطرفين لدينا يفهمون الدين فهماً مختلفاً عن فهم أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، ما يعني أنهم أصحاب مذهب خاص، بل وخاص جداً! لقد تعبنا وأتعبنا غيرنا في الجدل حول هذه القضية التي لا تحتاج أكثر من قرار تاريخي شجاع. إنها قضية في غاية البساطة وفي غاية الوضوح، وحلّها أيضا في غاية البساطة والوضوح، وإن كان يحتاج إلى عزم وحسم. ومن هنا يجب أن نقول بكل وضوح لكل متطرف متزمت منغلق: خيارك في الرفض، وهو خيار مكفول، يجب ألا يلغي خيار الآخرين في القبول. أختم هذا المقال بما قلته في مقال سابق استعرضت فيه ممانعة هذا التيار المتطرف لتعليم البنات قبل خمسة عقود، وكيف كان الحل التاريخي واضحاً وسهلاً وعادلاً. لقد قلت آنذاك:"إن معظم القضايا التي يمارس خطاب التطرف الاحتراب عليها الآن، هي مسائل قابلة للتطبيق الاختياري. أي قابلة لأن يتم التعامل معها وفق كلمة الملك فيصل في تعليم البنات؛ عندما أكّدَ أن الحكومة لا تلزم أحداً بتعليم البنات، وفي الوقت نفسه، تتعهد بتوفير هذا التعليم لمن أراد. ولو تم التعامل مع قضايانا التي يمانع فيها المتطرفون اليوم على هذا النحو من الفهم الحقوقي؛ لفقد الخطاب المتطرف حقه في الاعتراض؛ لأن كل القضايا التي يمانع فيها، ويتصادم مع الأغلبية بشأنها، مسائل اجتهادية، عارضه فيها كثير من المُجتهدين المعتدلين، أي أنها ليست من القطعيات الصريحة في الدين، بل هي مسائل مدنية طارئة، خالفت فيها الأقلية المتطرفة لدينا رأي الأغلبية الساحقة في كل أنحاء العالم الإسلامي". وهذا ما نقوله اليوم وغداً وبعد غد، وإلى ما شاء الله.