د. محمد بن سعود المسعود الاقتصادية - السعودية الفراغ ينبت الثرثرة، ويبحث عن الكلام، ظل الصمت عند العرب أثقل من الكلام الفارغ طيلة الوقت، كانت الأساطيرُ يكررها الرواةُ بشغف لا يمجه المتلقي، وكانت الأشعارُ هي الموسيقى الحرفية للكلمات، كان الكلامُ سوقا ينتصب فيه الرجالُ العظام، يفردون فيه قصائدهم كسجادة فارسية منسوجة من الحرير الخالص، وأمام خبراء القيمة التركيبية للحروف والموسيقى، ورعاية الحرفة في الأوزان. ترتفع مقاديرُ صغار، ويتصاغر كبار. هذا كله ثابت في أمة خلف ظهرها إبل تقتات اليباس، وتجتر المضمر في سنامها، كان هذا والخيمة بذاتها عابرة سبيل تلتقط المرعى والبقايا الشحيحة من عذوبة الماء، كانت حضارة الكلام، حين كان الكلام هو لعبتها ونشوتها وشهوتها الأولى والوحيدة التي يتقاسمها الجميع على اختلاف طبقاتهم، كانت العرب أمة تجيد صناعة الكلام وتعشق الجمال فيه، وتعد بيانه الرفيع، ضربا من السحر والنشوة السالبة للعقل والشعور والقلب، وكان خمرتها المحللة دون تأثيم في معاقرتها حتى للنساء مجاهرة وتفاخرا. يظهر لي أن أمة الكلام هذه لم ينلها نصيب من عزيمة الأفعال التي أحيت اقتصاد دول وهي رميم، وأغنت شعوبا، تسكن فوق الأرض المبتلاة بالزلازل العنيفة التي تتربص بعمرانهم كل عام مرات كثيرة، تتعمد ألا تبقيه، ولا تتيح لأحد فرصة الاستمتاع به. اليوم بات الكلام عند العرب تعويضا عن العجز المهين الذي يعيشون فيه، وهكذا ينبغي أن نفهمه، إن الكلام تعويض نفسي مهم وملح لواقع العجز الذي يعيشه العرب، خاصة النرجسي المتأله الذي يفكر نيابة عن الجميع الذي لديه الحلول لكل المشكلات ما عدا مصروفه الشخصي، الذي يملك المفاتيح لكل الأقفال، الذي يطلق عليه مصطلح مستحدث اسمه مثقف. ربما لأنه أكثر إنسان يعي هذا العجز، يُمنى بشهوة الكلام الذي لا شفاء منه عند العرب. حين يعجز الرجل جنسيا، يكثر كلامه عن النساء، وحين يُفلس التاجر يكثر كلامه عن المشاريع الرابحة والمحتملة، وحين يفلس المثقف يكثر كلامه بالشكل الذي يصعب على من حوله إسكاته. شاعت المنتديات الثقافية كثيرا جدا، وهي تعاني في أكثرها شهوة الكلام، وتعاني المتعة المرضية في الإكثار منه، وتعاني إرسال المعاني لمن لا يحتاج إليها من المُتلقين، ومن تعليم ما هو معلوم، وتفهيم ما هو مفهوم. ثم لا تفعل شيئا غير هبات الكلام، وإجزال العطية منه، لساعات طويلة، غالبا تحتاج إلى فترة نقاهة سماعا وعصبا وعقلا، لتتعافى مما أوقعت نفسك فيه، ولتبرأ مما مُنيت به، فلو زهد المحاور في الكلام، فستجد نفسك مصلوبا بثلاث ساعات حسوما من الكلام العاجز الذي لا يُطعم فقيرا ثلاثة أرغفة خبز، ولا يُقدم فرحا لقلب يتيم عاجز عن حاجاته الملحة. أصبحنا بحكم العجز ظاهرة صوتية، قرون طويناها ونحن نتكلم عن النظافة ونحن اليوم أعجز شعوب العالم في الالتزام بها، قرون من الحديث عن حرية الرأي وحين تختلف مع أحدهم يرميك بكل خسيسة، وبفجور كافر لا يؤمن بيوم الحساب، قرون ونحن نتحدث عن اللقمة الحلال، والكسب الحلال، وفي كل يوم تغرق أرواح في سيول من فساد، لا تُبقي حجرا على حجر، وفي كل يوم تزيح الشباك الحرام آمال المواطنين في نوال جدران تأويهم ويلوذ بها أولادهم بعد مماتهم. لأن التدين كلام، ومخافة الله كلام، وأخلاقنا حدودها الكلام. إننا أمة مصنوعة من كلام وصوت، ولا تحسن غيره عملا ولا تهتدي لغيره سبيلا.