درس الناقد العراقي عادل الهاشمي الفن الموسيقي في القاهرة، وعاد إلى بغداد أوائل سبعينات القرن العشرين، ليقدم بحوثه ودراساته التي قوبلت بفتور في البداية، لرصانتها وابتعادها عن المداهنة إضافة إلى جِدّتها، غير أن إصراراً على هذه المعرفة وخطابها حفظ للهاشمي حضوره في تدعيم الذائقة والنقد وتقويم للعاملين في حقل الموسيقى والغناء. عاد الهاشمي إلى القاهرة قبل أيام، مشاركاً في مهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية في دار الأوبرا المصرية، لكنه توفي قبيل افتتاح المهرجان وخلال إقامته والوفود في «فندق أم كلثوم»، بعد جولة قام بها فور وصوله إلى القاهرة التي أحب على أماكن عزيزة على نفسه: شقة محمد عبد الوهاب وبناية فريد الأطرش، وصلّى في مسجد جمال عبد الناصر وزار مرقده. إنه رسول الموسيقى العربية والشرقية في عصرها «الذهبي»، أي ستينات القرن الماضي، وتجربته غنية بملامح مختلفة نوعاً ما عن سواه من النقّاد: الموسيقى والغناء في العراق، بروح نقدية تعتمد التبصر والمعرفة من دون الانغلاق على جمهرة الموسيقيين والمحترفين المتخصصين، بل الانفتاح على جمهرة المتلقين ومدّهم ما أمكن بثقافة التمييز بين غثّ الغناء وسمينه. العصبيات المعاصرة الهاشمي (مواليد 1942) تحدث باكراً عن مؤشر هو في حقيقته يمثل وعياً اجتماعياً لقيمة الموسيقى وتأثيرها، فهو لاحظ منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، علامات الانحطاط الفني في النتاج الموسيقي والغنائي العراقي والعربي على حد سواء، معتبراً تلك العلامات مؤشراً لتحولات اجتماعية تمضي إلى تراجع القيم المدنية المعاصرة لمصلحة عصبيات متخلفة من كل نوع. ولا تخلو تبصّرات الناقد الهاشمي من حدّة، لكنها مقامة على آلية منهجية، إذ انهمك بالمراجعة الدؤوبة والمعرفة العميقة، ليس بأساسيات الموسيقى فحسب، بل باتصال الأنغام ببيئاتها ومناخاتها الاجتماعية والثقافية. من هنا، هو أحد أعمدة النقد الموسيقي والغنائي في العالم العربي الذين لا يوقفون بحثهم وتدقيقهم في الجوهر المقامي واللحني، ويشير أيضاً إلى كل ما يصاحب العمل الموسيقي من عناصر ومرجعيات. وإضافة إلى مقالاته التي واظب على نشرها في جريدة «الجمهورية» البغدادية، منذ أواخر السبعينات حتى أيام قبل انهيار الصحيفة مع انهيار النظام العراقي السابق، هو صاحب العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي عنت بتقويم الأذواق والأسماع وإشاعة المعرفة حول عناصر العمل الموسيقي والغنائي. كان الهاشمي محارباً لا يهدأ أمام الرداءة النغمية، وكان يرى أن «ذائقة متدنية تسود الغناء العربي الراهن» وأنه «من الجائز جداً أن يتعاطف الجمهور مع أي أغنية قد تنطلق من رحاب الإنتاج اليومي، لكن هذا التعاطف يصطدم بقضايا كثيرة، منها على وجه الخصوص، أن الأغنية لم تعد تشكل التعبير الأمثل من الهمّ الأساسي، إنما أصبحت أكثر إثارة للغرائز، وفقدت سماتها الأساسية، خصوصاً في مجال السلامة الفنية، وأعني بها غياب النطق السليم والإلقاء الراقي والبلاغة الأدائية والإحاطة المعرفية بالمقام الموسيقي الذي تنطلق من عالمه الأغنية ولحنها. كما يمكننا الإشارة إلى غياب التكوين التربوي للأسماع، فهي لا يهمها من الأغنية اليوم إلا إشباع الحاجة الاستهلاكية لها، أما ما ترمز إليه الأغنية وما تعبّر عنه ومدى ملامستها لواقع الإنسان العربي، الغوص في حاجات الإنسان للحرية والحب والخبز، فهذا ليس جديراً بالاقتراب منه، ولذلك فإنني أعزو التسطيح القائم في التلقي السمعي العربي، إلى الانكسار النفسي والهزيمة الذاتية التي يعيشها الإنسان العربي». كان الراحل يشدد في مقاربة نقدية خاصة على أن «الأغنية الجميلة هي نغم وتعبير راقيان عن البيئة»، موضحاً: «ماذا يعني أن تكون الأغنية ابنة بيئتها؟ ببساطة أن تعلن بصراحة أنها مع أحلام الإنسان البسيطة، ومع موروث المجتمع الذي تولد فيه، ومع ذلك الحشد من العوامل المحلية ذات الطابع الفني الخاص في ما يتعلق بالنسيج اللحني وبالأنغام المستخدمة والإيقاعات التي تحتوي عليها الأغنية وباللون الذي يطغى فيه الإحساس بالذاتية الثقافية الوطنية». رأيه في كاظم الساهر ومن جملة آراء الهاشمي التي رأى كثيرون بعضها «قاسية» بل و»متحاملة»، كان رأيه في كاظم الساهر ألحاناً وصوتاً أنه «جاء جيل تنقصه المعرفة والدراية يتقدمه كاظم الساهر، ففقدت الأغنية العراقية آخر ملمح من ملامحها البيئية». وحين كان يجادله آخرون بأن كاظم الساهر استطاع أن يبث روحاً جديدة في قوالب غنائية أصيلة كادت تنقرض كقالب القصيدة المغناة، كان يرد: «في ما يتعلق بالقصيدة اليوم والذين يركبون موجتها، ونخص بالذكر منهم كاظم الساهر، نرى أن تلحينها يعاني نقائص عديدة أولاها: العجمة في اللفظ، بسبب غياب التدريب العلمي على قراءة القرآن الكريم وتجويده، وثانيتها: أن الساهر يبتلع نهايات الحروف العائدة للكلمة الشعرية، ولا يعرف مسألة اختلاس الأنفاس في القصيدة، خصوصاً في حروف الامتداد، كما أنه لم يعتد تلحين المعنى الشعري، فالقصيدة الناجحة هي تلحين المعنى وليس المبنى، ثم هو أخيراً لا يضبط أواخر الكلمات فيحيل الشعر بذلك إلى زجل... إنه يحيل «قالب القصيدة» إلى «قالب الطقطوقة»، فلحنه يذهب إلى المداعبة الخفيفة التي تُفقد القصيدة رصانتها». للهاشمي كتب عدة، منها «مسيرة اللحنية العراقية»، «العود العربي بين التقليد والتقنية»، وكتابه المهم الصادر حديثاً في الإمارات: «الموسيقى العربية في مئة عام». وفضلاً عن عمله الكتابي المؤثر، فإنه درّس التذوق الموسيقي في معهدي «الدراسات النغمية» و»الفنون الجميلة» و»كلية الفنون الجميلة» في بغداد.