ساسة بوست في هذه الآونة بالذات يكثر الحديث المنفلت عن السلفية والوهابية، ويكثر أن يعزو الناس ما يرونه من مظاهر التشدد الديني الذي يصل إلى حد الإرهاب والقتل، إلى الوهابية التي نشأت بين أحضان الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر الميلادي على يد المؤسس الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقامت على أساسها دولة المملكة السعودية. ولا أعد نفسي في الحقيقة "عالمًا" بشؤون السلفية، حتى يكون المقال تنظيرًا حولها، ولا أعد نفسي كذلك بالمناسبة من أنصارها حتى يكون المقال دفاعًا عنها، فالمقال لا يعدو كونه مشاركة مع القارئ العزيز تجربتي الشخصية في قراءة بعض من أعمال الرجل – محمد بن عبد الوهاب – الذي أشتغل بدراسته هذه الآونة، والذي كثر الحديث عنه دون أن يشيع في المقابل قراءته بنفس القدر. دخلت إلى عالم الشيخ وأنا بمنتهى الصراحة مليء بالافتراضات المسبقة، والمحاذير والظنون، ظننت أنني سأقرأ كلامًا صلبًا جامدًا يناسب الصورة الذهنية الشائعة عن الرجل وعن أفكاره، أو مجموعة من الأحكام المتشددة لا تبتغي شيئًا سوى التعقيد وادعاء امتلاك الحقيقة، كما يفعل كثير ممن ينسبون أنفسهم إلى الرجل نفسه وإلى مذهبه. كانت هذه مجموعة رسائل الشيخ التي تبادلها مع كثير من معاصريه، إما أتباعه أو خصومه أو سائليه في بعض المسائل، وهي الواردة في ملحق كتاب "تاريخ نجد" المعروف ب "روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام" لحسين بن غنام، وهذا الكتاب هو أحد أهم وثيقتين تؤرخان لتلك الفترة، الوثيقة الثانية هي كتاب "عنوان المجد في تاريخ نجد" لعثمان بن بشر، ابن غنام عاصر محمد بن عبد الوهاب، وابن بشر عاصر ابنه إبراهيم وأخذ عنه العلم. أكثر عبارة ألحت على ذهني وأنا أواصل القراءة في سطور الرسائل: أن هذه الرسائل "حية"، وأعني بذلك أنها مليئة بالمشاعر المتفاعلة التي تضج بها السطور، فعندما تقرأ تشعر كأنك ترى الشيخ في حاله الذي كتب عليه شاخصًا أمامك، فكأنك تراه أمامك يتألم بشدة لخلاف حصل بينه وبين أحد من أتباعه فتراه يقول: "من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عيسى وعبد الوهاب، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد ذكر لي أنكم زعلانين علي في هذه الأيام بعض الزعل، ولا يخفاك أني زعلان زعلًا كبيرًا، وناقد عليكم نقودًا أكبر من الزعل، ولكن وابطناه واظهراه! ومعي في هذه الأيام بعض تنغص المعيشة والكدر مما يبلغني عنكم، والله سبحانه إذا أراد أمرًا فلا راد له". ويدفع عن نفسه التهمة عندما تحدث الناس في تكفيره للمسلمين قائلًا: "وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول، ثم – بعدما عرفه – سبه، ونهى الناس عنه، وعادى من فعله، فهذا الذي أكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك. وأما القتال فلم نقاتل أحدًا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أتونا في ديارنا، ولا أبقوا ممكنًا، ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وكذلك جزاء من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه". وينفعل انفعالًا شديدًا، ويصب جام غضبه في رسالة إلى "سليمان بن سحيم" الذي كان من أنصاره، ثم أشاع عنه بعض الاتهامات واستنصر الناس عليه قائلًا له: "الذي يعلم به سليمان بن سحيم أنك زعجت قرطاسة فيها عجائب، فإن كان هذا قدر فهمك فهذا من أفسد الأفهام، وإن كنت تلبس به على الجهال فما أنت برابح، وقبل الجواب نذكر لك أنك أنت وأباك مصرحون بالكفر والشرك والنفاق". ويعاتب أحد الحكام – والذي يبدو أنه كانت تجمعه به صداقة في الماضي – لما وقع بينهما قائلًا: "فقد وصل إلينا من ناحيتكم مكاتيب فيها إنكار وتغليظ علي، ولما قيل إنك كتبت معهم وقع في الخاطر بعض الشيء، لأن الله سبحانه نشر لك من الذكر الجميل، وأنزل في قلوب عباده لك من المحبة، ما لم يؤته كثيرًا من الناس، لما يذكر عنك من مخالفة من قبلك من حكام السوء، وأيضًا لما أعلم من محبة الله ورسوله، وحسن الفهم واتباع الحق ولو خالفك فيه كبار أئمتكم، لأني اجتمعت بك من نحو عشرين سنة، وتذاكرت أنا وإياك في شيء من التفسير والحديث، وأخرجت لي كراريس من البخاري كتبتها ونقلت على هوامشها من الشروح، وقلت في مسألة الإيمان التي ذكر البخاري في أول الصحيح: هذا هو الحق الذي أدين لله به، فأعجبني هذا الكلام لأنه خلاف مذهب أئمتكم المتكلمين. وذاكرتني أيضًا في بعض المسائل فكنت أحكي لمن يتعلم مني ما منّ الله به عليك من حسن الفهم ومحبة الله والدار الآخرة" ثم يقول له موضع آخر "فإني أحبك وقد دعوت لك في صلاتي، وأتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم، ولا يمنعني من مكاتبتك إلا ظني أنك لا تقبل، وتسلك مسلك الأكثر". وتراه في موضع غير متعصب لرأيه فيقول إلى سائله في بعض الأمور: "وأنا أجيبك عن الكتاب جملة، فإن كان الصواب فيه فنبهني، وارجع إلى الحق، وإن كان الأمر كما ذكرت لك من غير مجازفة – بل أنا مقتصر – فالواجب على المؤمن أن يدور مع الحق حيث دار" وفي رسالة أخرى يقول "وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلها على الرأس والعين". ويعارض بجرأة عادات مجتمعه القبلي في قضية توريث النساء الذي فيه اعتادت القبائل أن تتحايل على توريث النساء باستخدام "الوقف" قائلًا: "وأما مسألتنا فهي: إذا أراد الإنسان أن يقسم ماله على هواه، وفر من قسمة الله، وتمرد على دين الله، مثل أن يريد أن امرأته لا ترث من هذا النخل ولا تأكل منه إلا حياة عينها، أو يريد أن يزيد بعض أولاده على بعض، فرارًا من وصية الله بالعدل، أو يريد أن يحرم نسل البنات،...، ويفتي له بعض المفتين أن هذه البدعة الملعونة صدقة بر تقرب إلى الله، فنقول: من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر تغيير شرع الله ودينه، والتحايل على ذلك بالتقرب إليه، وذلك مثل أوقافنا هذه إذا أراد أن يحرم من أعطاه الله، من: امرأة، أو امرأة ابن، أو نسل بنات، أو غير ذلك". بشكل عام، تشعر وأنت تقرأ كتابات محمد بن عبد الوهاب أن هذا الرجل كان يعيش عصره بكل كيانه، منفعلًا ومتفاعلًا مع قضاياه تمامًا غير معزول عنها حتى في رسائله المبكرة، قبل أن تصبح له سلطة ضخمة بتحالفه الشهير مع آل سعود، ولا تملك إلا أن تنفعل مع الرجل في انفعالاته النابضة، التي تقرؤها حية برغم مرور أكثر من قرنين على زمان كتابتها. تشعر أيضًا أن هذه الكلمات – اتفقت أو اختلفت مع رأي كاتبها – تخرج من قلب وذهن ليس فقط "على قناعة" بفكرة ما، لكنه على إيمان تام بها كأنه قد تشربها في كيانه. تلمح أيضًا كثيرًا من الدلالات الاجتماعية تطل برأسها من بين ثنايا السطور، فترى كيف كان ينظر الشيخ إلى الفروق الثقافية بين البدو والحضر، تلمح كيفية حضور أصحاب السلطة والحكام في عصره وكيف تعامل معهم بجرأة ذكية دون تزلف، ترى تواضعه في مواضع كثيرة مع السائل من تلاميذه، وترى في الأغلب الأعم ثقة شديدة لا تهتز فيما يؤمن به. كان هذا الرجل اختصارًا صاحب قضية، وراغب في إصلاح مجتمع، وتخليصه مما يراه شرًا مستطيرًا، وصاحب رؤية ثاقبة في ذلك لا صاحب شعارات، وكذلك صاحب عزيمة في أمره يقبل أن يلقي به خارج قريته طريدًا على أن يداهن العامة بما يحبون، مثلما فعل معظم علماء وقضاة عصره الذين تناولتهم رسائله وكتبه، من الذين اعتادوا أن يقولوا للعامة ما يحبون أن يسمعوا، وما أكثرهم في هذا الزمان، ويقبل أن يتهم في نفسه ودينه على أن ينافق أصحاب السلطة الذين كادوا أن يقتلوه ذات مرة، وطردوه في مرات عديدة. أقول ختامًا: ربما يكون الحديث عن محمد بن عبد الوهاب بهذا الشكل مستفزًا للبعض – وخاصة في مثل هذا التوقيت – وهو أمر لا يشغلني كثيرًا، فرضا الناس غاية لا تدرك، وقد اعتدت أن أقول ما أرى، وأسمع قدر المستطاع في صمت لأتعلم. لكن فقط أردت أن أنوه مرة أخرى أن هذا المقال ليس مدحًا في السلفية ولا نقدًا لها، ولا مدحًا في الوهابية ولا نقدًا لها، فقط هو تفاعل مع كتابات رجل قرأت الكتابات عنه أكثر مما قرأت كتاباته، وليس ما ذكرت أعلاه سوى جانب واحد بالطبع من شخصية الشيخ بن عبد الوهاب، أو حتى بعض من ذلك. وبخصوص أفكاره، فأقول إجمالًا أن اعتقادي – الذي يمكن أن أفصله في مقال آخر – أن كثيرًا من أفكار هذا الرجل قد أسيء فهمها أو أسيء استخدامها، أو كلاهما معًا، وأيضًا أن كثيرًا من الأفكار التي عرضها الشيخ بن عبد الوهاب، أتفهمها جدًا في سياقها التاريخي والاجتماعي، ولا يجب علينا عزلها عنه عند نقدها وتحليلها، ولا يتعارض قولي هذا مع اختلافي مع قليل أو كثير من أفكاره الأخري. فقط أقول إن تجربته يجب النظر إليها في سياقها حتى تفهم على الوجه الصحيح. وتبقى في النهاية تجربته ثرية ومثيرة للتأمل والدراسة لمن يبتغي المعرفة ولو كانت ضد ما يرى، ولا يريد الانتصار لرأيه ولو كان ضد الحق، فالمؤمن – كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب – عليه أن يدور مع الحق حيث دار.