المدينة - السعودية (1) لم يعرف المواطن العربي - طوال القرن الماضي - سوى حاكمين: الشيخ والعسكري. وعندما أقول «الشيخ» أقصد: الشيخ والسلطان والإمام. وعندما أقول «العسكري» أقصد حتى أولئك الذين لم يتخرجوا من أي كلية عسكرية. ولأن المواطن العربي لم يعتد على الاختيار، تجده في أول تجربة له ( في ما يسمونه ديموقراطية عربية ) لم يخرج عن هذين النموذجين: العسكر والشيوخ، والبلاد التي لم يعد فيها «شيخ» عشيرة استعاضت عنه ب «شيخ» الدين. في الديمقراطية اللبنانية العجيبة: تتكرر عليك نفس الوجوه من «شيوخ» الطوائف.. لتختار في النهاية أحد «العسكر» المُتفق عليه ليكمل فاترينة الحكم! (2) العسكر طوال الخمسينيات والستينيات يسخرون من الشيوخ ويحرضون شعوبهم عليهم. العسكر العرب - ولسبب أجهله - يظنون أنفسهم أنهم تقدميون، والشيوخ رجعيون. لم يترك العسكر العرب نظرية سياسية إلا وطبقوها على شعوبهم: كانوا يقفزون بمهارة لاعب سيرك من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. يستطيعون أن يجمعوا كارل ماركس وشيخ طريقة صوفية في طبخة واحدة، وعلى العقل الشعبي أن يلتهمها، ويصفق لها ولطعمها، ويلحس أصابعه، وعقله.. للذتها! في بعض الدول العربية راجت هذه العبارة: الضابط الذي يصحو مبكراً تجده في الصباح في أحد شوارع العاصمة على ظهر دبابة، عند الظهر تسمع صوته عبر الإذاعة يتلو البيان الأول، وفي المساء ينام في القصر الرئاسي! (3) الشيوخ - في الغالب - حكماء. العسكر - في الغالب - متهورون. (4) خذوا هذين المثالين: معمر في ليبيا، وزايد في الإمارات. يُقال، في أوائل السبعينيات، زار الشيخ زايد - رحمه الله - ليبيا وانبهر بجمال «بني غازي» وقال: متى أرى أبو ظبي بجمال هذه المدينة؟ ومرت السنوات، انشغل زايد ببناء أبو ظبي وشقيقاتها، وانشغل معمر بهجاء «مشايخ النفط». جلب زايد كل شركات الدنيا لبناء المدن ورفاهية الإنسان وصناعة المستقبل. وجلب معمر كل فكرة مجنونة وطبقها على الشعب الليبي.. ولم يكتفِ بهذا: كان عقله المهووس يبتكر من النظريات السياسية ما لم يخطر على بال أدهى فلاسفة السياسة! أبو ظبي وليبيا: كلتاهما تمتلكان نفس الثروة، كلتاهما بدويتان لهما نفس الطباع، كلتاهما لهما نفس التعداد البشري المتقارب. كان زايد نعمة الإمارات، وكان معمر نقمة ليبيا. رحل الاثنان.. الثاني: ترك وراءه الخراب، والخوف، والمستقبل المجهول، والدعوات الغاضبة التي تطارده في قبره. الأول: ترك وراءه أبو ظبي الجميلة، ودبي الباهرة، والشارقة الشارقة، والإنسان الآمن المطمئن المُرفّه الذي ما يزال يدعو له في صلاته. (5) النموذجان ليسا أرقى ما وصلت إليه أنظمة الحكم في العالم.. وبالطبع، لا يخلوان من العيوب، ولكنني لو خيّرت بينهما، لاخترت: الشيوخ. الديمقراطية الرائعة هي التي أتت بالمُروّع هتلر إلى حكم ألمانيا ليشعل الحرب العالمية الثانية ويقوم بإحراق نصف الأرض ويتسبب بمقتل 50 مليون إنسان. (6) العسكري، حتى وإن نزع البدلة، لا يمكنه نزع «رأسه».. وبسطاره! (7) منذ الطفولة، وعبر لعبة ( عسكر وحرامية ) علمونا أنه لا يوجد نموذج ثالث! (8) أسوأ ما يمكن ان يحدث لهذين النموذجين أن: يتعسكر الشيخ ويتمشيخ العسكري. في سوريا «تمشيخ» حافظ الأسد وأورث الحكم لابنه بشار. في المقابل لم نر شيخا يتعسكر.. ونرجو أن لا نراه. [email protected]