مكة أون لاين - السعودية قرأت مرة في إحدى الصحف المحلية تصريحا لعميد كلية صيدلة يقول فيه "إننا نحتاج إلى مليار ريال لإنتاج دواء سعودي مئة بالمئة"! والحق أنني حين أقرأ خبرا أو تصريحا كهذا، فإن "الفار يلعب في عبي" كما يقول المثل الدارج ، وأنا أجد "لعب الفأر" هذا مبررا للأسباب التالية: أولا هذا الكلام لا معنى له، وأستغرب كيف يصدر من عميد كلية ثم كيف تنشره جريدة. ثانيا مليار ريال مبلغ خيالي بالنسبة لإنتاج عقار واحد. ثالثا وهو الأهم، فإن الأمور لا تسير بهذه الطريقة في العلوم. هناك مشكلتان أساسيتان في صحافتنا المحلية: عدم وجود محررين متخصصين في العلوم والفساد والشللية. خلال ملاحظتي طوال السنوات الماضية لأخبار الجامعات والعلوم والإنجازات المزعومة وجدت أن غالبيتها الساحقة محض أكاذيب وفي أفضل الحالات مجرد مبالغات مضللة. وحينما تحاول أن تشرح للناس بأن هذا غير ممكن تثور ثائرتهم ويطالبون بإثباتات، والحق أن هذا أمر سخيف، فإذا كنت لم تفهم ولم تعرف من الأساس أنها من الأصل أكذوبة فكيف سيمكنك فهم التفاصيل التقنية لنفي أنها أكذوبة؟ الدواء (أو العقار) هو جزيء كيميائي ذو تأثير معين. والأمراض –بتبسيط- إما بسبب اختلال وظيفي (في وظائف الخلية) أو بسبب عامل ممرض خارجي (بكتيريا، فيروس... إلخ). ولذلك فالتأثير المطلوب من الدواء هو استعادة الوظيفة إلى الوضع "الطبيعي" (تثبيط، تنشيط... إلخ) أو القضاء على العامل الممرض أو تحجيم تأثيره في حالة كثير من الفيروسات لأنها ليست كائنات حية بمعنى ما، لذلك يواجه الباحثون صعوبات فيما يتعلق بالفيروسات لأنها سريعة التحور وحين يصبح عقار ما جاهزا للاستخدام الطبي يكون الفيروس تحور إلى شكل آخر. هذه أشياء أولية يفترض أن التلاميذ في التعليم العام يعرفونها، ولكننا نلاحظ أنه لا تلاميذ المدارس ولا طلاب الجامعات ولا غيرهم يعرفونها، وما لا يعرفونه يفترض أن الإعلام المتخصص في العلوم للجمهور العام يقدمها لهم، ولكن الإعلام أغلبه شلل ولا يوجد به محررون متخصصون، فلذلك نرى أن لا التعليم ولا الإعلام استطاع أن يجعل الناس أكثر معرفة وأقل قابلية لأن يخدعوا، فمن المسؤول؟ وعلينا أن نسأل أيضا من المستفيد؟ عملية إنتاج عقار لاختلال وظيفي أو ضد عامل ممرض ليست عملية سهلة تسير دائما في خط واحد، وليست عمل شخص واحد، ولا عشرة ولا حتى مئات الأشخاص. فيجب أولا أن تكون البحوث الأساسية قد تطورت وأسهم فيها ألوف الباحثين وفرق البحث العلمي لفهم الفرق بين عمل الخلية في الوضع الطبيعي وفي وضع الاختلال أو لفهم طبيعة وتركيب ووظائف العامل الممرض. وحينما يصبح هناك "أنموذج" يمكن الارتكان إليه ويلخص كل ما فهمه الباحثون بخصوص هذا الاختلال، يمكن النظر إلى المسارات المرشحة ليكون التداخل معها بعقار ذا تأثير. ثم دراسات لتصميم وتطوير الجزيء الكيميائي المرشح ليكون عقارا. وهذه ليست أبحاثا يقوم بها شخص واحد، ولا حتى فريق بل آلاف الفرق البحثية حول العالم، وتتداخل فيها علوم البيولوجي والتركيب الجزيئي والمعلوماتية وغيرها، وتسهم فيها فرق بحث أكاديمية ومراكز بحوث وشركات إنتاج الأدوية بالتعاون. وتتضمن تجريبا على الخلايا والأنسجة وحيوانات التجارب قبل الانتقال الى مرحلة التجريب السريري المحدود. وحين يثبت العقار فعاليته تنتجه شركات الأدوية بكميات تجارية ويصبح متاحا. الأخبار في صحفنا عن اكتشافات أدوية للسرطان أو غيره التي تزعم أكاديمية أنها تنتجها من بول الإبل، أو "بعيدا عن عالم نواعم، سعودية تنجح في اكتشاف... إلخ" سخيفة للغاية ومؤلمة في آن. كيف وصل المجتمع إلى مرحلة أن كل شخص يرغب في استغلال الاخرين بشتى الطرق والظهور والشهرة الفارغة؟