العرب - قطر بالأمس، وأنا في مقهى قديم يطل على قناة مائية في الريف الإنجليزي، أسندت ظهري للمقعد، ورفعت ناظري للأفق نحو تلة بعيدة تطل على القرية، كنت دوماً أراها كمعراج عظيم تعرج فيه أفكار الناظرين إليها. وبينما أنا في جلستي هذه، ناداني شخص يبعد مسافة طاولتين عن مكاني، «اسمح لي يا سيد ولكن أعتقد أن فطيرة التفاح بدأت تبرد، فالنادل وضعها منذ فترة، وأنا أراك شارد الذهن»، ابتسمت له وشكرته، وتمنيت أن لا تكون الفطيرة قد فقدت سخونتها، فهنا تكمن لذتها، ولما مددت يدي إلى الشوكة والسكين حضر في ذهني أن الرجل بجانبي ذو وجه مألوف، فالتفت اليه لأتبين ملامحه، ويا للمفاجأة! إني أعرفه، نعم إنه هو، البروفيسور وليام باريت، عالم فلسفة كنت قد قرأت أحد كتبه. ناديته وقلت له «اسمح لي يا سيد، هل أنت البروفسور وليام باريت؟» فأجابني «نعم، أنا هو»، قلت له «إنها لفرصة عظيمة لي أن نجتمع صدفة في هذا المكان الريفي»، وقمت بترجمة مثل عربي قديم يقول (رب صدفة خير من ألف ميعاد)، فابتسم البروفيسور وشكرني على ترحيبي به، هنا تداركت حبل التعارف الذي بدأت أنسجه بيني وبينه فقلت له: «أتسمح لي باحتساء القهوة معك، فالمكان هادئ لدرجة الملل، ويبدو أنه لا يوجد أحد غيرنا، وبالطبع إنها لفرصة عظيمة أن أناقش معك بعض الأفكار التي قرأتها في كتبك»، رد علي البروفيسور بكل لباقة وقال «تفضل بكل سرور». حملت فنجاني لأجلس على كرسي مقابل له يطل أيضاً على تلك التلة الملهمة للخيال، عرفته بنفسي بأني طالب قطري أتيت من لهيب صحراء العرب إلى صقيع بلاد الفرنجة طلباً للعلم، فأنا أدرس التكنولوجيا البيولوجية، وهو علم تأخرنا فيه كثيراً، وعندما اهتم به البعض من بني يعرب اهتم بالجانب المظلم منه كصناعة الأسلحة البيولوجية، وكل ما يسرع بفناء البشر للأسف. هكذا هم البشر منذ اختراع النار، هناك من استخدمها لتنير له طريق الحضارة، وهناك من استخدمها ليحرق بها بني جلدته أمثال نيرون ومن على شاكلته. ولكني تداركت لاحقاً في محاولة مني لإخفاء حماسة اللقاء، وقلت «لعلك تتساءل كيف عرفتك في حين أن مجالي البحثي يختلف عما تكتبه أنت». قال «هذا صحيح وكنت خجلاً من أن أسألك هذا السؤال». قلت له «لي بعض الاطلاع على المؤلفات في السياسة والأدب والفلسفة، وآتي لهذا المكان الهادئ لأقرأ بعض الكتب التي تدور في فلك مجالات اهتماماتي التي ذكرت». قال البروفيسور مبتسما «لهذا عرفت وجهي، يبدو أنك قرأت أحد كتبي، لا تغتر بمؤلفاتي كثيراً فأنا أراها أفكاراً عامة بإمكانك وبإمكان أي شخص آخر أن يستنبطها من نظرته للحضارة المعاصرة». ابتسمت وقلت له «دعك من تواضع العلماء»! احتسينا معاً فنجان القهوة، ومضينا في الحديث عن الحياة في بريطانيا، ثم تحول النقاش إلى الحديث عن بعض الأماكن التاريخية في شمال إنجلترا التي تستحق الزيارة، وعندما ذاب جليد لحظات التعارف الأولى بادرني البروفيسور بسؤالي عن سبب شرودي الذهني عندما كنت جالساً وحدي، «فقد وضع النادل فطيرة التفاح أمامك وأنت لم تلاحظ ذلك!» فأجبته «إن هذا صحيح فقد كنت مشغولاً في التفكير عن طارئ سياسي جديد». قال البروفيسور: «لا بد أنها الأزمة الأوكرانية فهي صراع كبير سيحدد ملامح الصراع في المرحلة القادمة، سواء في أوروبا أو في الشرق الأوسط» قلت «هذا سيكون صحيحاً لو كان هذا اللقاء كان معك قبل أسبوع واحد، ولكن ما كان يشغل تفكيري منذ قليل وضع سياسي أشبه بالكوميديا السوداء يا عزيزي البروفيسور، خليجنا العربي الذي عاش أكثر من ثلاثين عاماً من الاستقرار، ونجا من زلازل سياسية كثيرة بفضل الله، ثم بحكمة قادته وأبنائه، أصبح في مهب ريح سياسات خاطئة تكرر نفسها» قال البروفيسور «هل من الممكن أن توضح أكثر؟» رددت «بكل سرور، إن مجلس التعاون الخليجي يتكون من ست دول، الشقيقة الكبرى وشقيقاتها الخمس، كما نسميها في الخليج، وهذه الشقيقة الكبرى تنظر لها الشقيقات الأخرى بكل الاحترام والتقدير، ولكن حدث نوع من الاختلاف في السياسات الخارجية بين قطر وثلاث شقيقات من المجلس طوال الأشهر الماضية، وقد كان هذا الخلاف منفياً داخل أبواب مغلقة حتى الأسبوع الماضي، حيث تم نقل الخلاف من الهرم إلى قواعد مجتمعاتنا الخليجية في صوره أشبه بالخلافات العربية بفترة الستينيات والسبعينيات وبتاريخ سياسي عربي كنا نتندر عليه إلى عهد قريب»! هنا قاطعني البروفيسور قائلاً: «اسمح لي يا صديقي القطري، ولكن هل من الممكن أن توضح لي سبب الخلاف مع قطر؟». أجبته: «بكل سرور يا عزيزي، فأصل الخلاف هو فقط في السياسة الخارجية، لأننا ولله الحمد متحدون في سياسة الخليج الداخلية، والتاريخ يشهد لنا كيف أننا نضع كل الخلافات جانباً عندما يكون هنالك تهديد حقيقي للخليج. فقطر يا صديقي البروفيسور لديها عقيدة سياسية تقوم على بناء العلاقات مع الشعوب، وليس مع أنظمة الحكم فقط، لأن التاريخ علمنا أن الأنظمة تتغير، أما الشعوب فتبقى، والعلاقة مع الشعوب أرسخ بكثير من العلاقة مع الأنظمة، فالشعوب تحركها في الغالب أهداف إنسانية نبيلة كالمساواة والحرية والعيش الكريم، أما الأنظمة -وبالأخص العسكرية منها- تتحرك وفق المصالح التي تبقيها على الكراسي لأقصى مدة زمنية، فبالتالي مسألة العيش الكريم والعدالة الاجتماعية هي أمور ثانوية لا تخصها، إن أتت كان بها، وإن لم تأت فهي لن تبذل الجهد لها. ونحن في قطر اخترنا طريق دعم الشعوب، وجعلنا دعم المواطن العربي والإنسان بشكل عام هو من أهم أولويات العقيدة السياسية التي تتحرك بها مصالحنا». «المعذرة يا صديقي القطري، ولكن ما سبب إصراركم على السير في خط مناصرة الشعوب كما تقولون وهو طريق لن يجلب لكم إلا المشاكل والعداوات مع البعض، لم لا تسايرون الجو السياسي العام في منطقتكم؟!». قلت له: يا صديقي البروفيسور، لا يمكن أن تعيش في واحة خضراء وسط صحراء جرداء إلى ما لا نهاية، فالصحراء ستزحف عليك عاجلاً أم آجلاً، إلا إن قمت بزراعة المحيط بك ووسعت الرقعة الخضراء حولك، فهنا سيكون بإمكانك وقف التصحر نحو واحتك الخضراء، وهذا هو حالنا في قطر، فنحن نعيش في واحة خضراء موجودة في منطقة عربية يعشعش فيها البؤس والشقاء، فإن لم نبادر بدعم الكادحين والساعين لزراعة أوطانهم بزهور ونباتات العيش الكريم والعدالة الاجتماعية، فإن طاعون التخلف والفقر سيزحف إلينا مع الزمن. يا صديقي البروفيسور، كيف سيكون حال أوروبا لو لم تحكم أسرة ميدتشي إمارة فلورنسا؟! هنا ابتسم البروفيسور ابتسامة الفاطن لمراد السؤال وقال: ستكون أوروبا لا تزال في عصر الظلام، فهذه الأسرة لها الفضل في إشعال النور في أوروبا لتولي عصور الظلام إلى غير رجعة، فبالرغم من الدسائس الخارجية والداخلية لهذه الأسرة من قبل الكارهين للتغيير في أوروبا، إلا أنها استمرت في دعم العلم والفن والرقي بالمفاهيم الإنسانية في أوروبا. قلت له: لو كنت بوذياً يؤمن بتناسخ الأرواح لقلت لك إن روح فلورنسا هي الساكنة الآن في قلب الدوحة، فقطر بلد صغير يخوض نفس تجربة فلورنسا، ولكن في زمن مختلف، فإن توقفت قطر عن تحرير العقل العربي من رواسب الجهل التي تكدست في عقله لقرون، فإننا في وطننا العربي سنبقى نعيش في عصورنا المظلمة لقرون وقرون!! فجأة سقطت قطرات من المطر على يدي، وعندما نظرت للطاولة فإذا بها قد ابتلت بالماء، وما رفعت ناظري إلا وأنا جالس لوحدي على الطاولة وسط صمت لا يكسره إلا صوت تساقط قطرات المطر. نظرت في الذي بين يدي، فإذ بكتاب للبروفسور وليام باريت يحمل عنوان «وهم التقنية، بحث عن معنى في الحضارة التقنية». هنا تذكرت أن البروفسور باريت كان قد رحل عن عالمنا عام 1992، وعرفت أن الخيال قد شطح بي كثيراً. نظرت للكتاب نظرة أخيرة قبل أن أضعه داخل المعطف لأحميه من المطر، ولتقع عيني على جملة في الغلاف الخارجي للكتاب تقول «إن الرابطة التي تربطنا بالحياة في الخارج هي نفس الرابطة التي تربطنا نحن بحياتنا). أدخلت الكتاب في المعطف، ثم نظرت نظرة أخيرة للتل الذي تلبدت على قمته سحب الضباب، ووضعت النقود على الطاولة وخرجت.!!!