«في المرض يكون الجواب عندما نميل إلى الشك بحقنا في القيام بالمهمات الملقاة علينا».. فريدريك نيتشه عزيزي ممدوح.. «عرفت قبل البارحة أنك مُتَّ. هاتفني الأصدقاء من دمشقوبيروت قائلين أنك طويت الصفحة الأخيرة وأقفلت عينيك الملونتين ودخلت في متاهة الأبدية، وأحسب أنك فعلت هذا دون بكاء ودون دموع، ودون أعداء غيبيين بعدما كتبت عن هؤلاء رواية وأعلنتهم أمام الجميع. لم تبك، فالبكاء من شيم الضعفاء وأنت لم تكن في يوم من هؤلاء، حتى السرطان لم يكن عليك صاحب سلطان قوي وهو الذي هزم جسدك أخيراً بعد أن بنيت معه صداقة لعدَّة سنوات، فهو كان العدو الأخير الذي أعلن المعركة معك بشرف وأنت قاتلته بما تحمل من قوة الضمير وقوة الشعر وسطوة الضحكات المجلجلة التي بقيت تصدح بها وهو ينهش اعضاءك.. ولا تحزن يا صديقي فقد قاتلك المرض بكل مايملك من بسالة ولكن أيضاً بكل ما يملك الاعداءمن طاقات الغدر، ولست وحدك، قبلك كان ادوارسعيد ورفيق دربك سعد الله ونوس واليوم انت، ولم نعد نجد صديقاً في هذا العالم إلا والسرطان هو عدوه الاول، فبعد أن فشلت الصهيونية «التي كرهتها أنت حتى العظم» من قتل الأمل فينا جاءنا هذا السرطان، ولأننا لا نملك أمامه سوى أجساد منهكة تقاوم حتى اللحظة الأخيرة وببسالة تفوق بسالته، فنحن كما حاربنا الصهيونية ونحاربها كأصحاب أرض مغتصبة نقاوم السرطان بوصفنا أصحاب أجسادنا. وها أنت أخيراً تغمض عينيك بشرف عظيم وبايمان أيضاً. إيمان من استعمل جسده حتى آخر قطرة حبر فيه، وحين جاءك الموت لا أعتقد أنك أبقيت له شيئاً ليأخذه، وانما كان العكس، فقد ذهبت بنفسك إلى الموت الذي لابد منه. لا تقل أني أفلسف الموضوع وأحمله أكثر مما يتحمل، واني أريد أن أهوِّن عليك موتك، فالموت هو الموت وكفى، ولا داعي للفلسفة لأنها لا تقيم الموتى من قبورهم مثلما الأنبياء. ولكن يا عزيزي أعتقد أنها ضرورية جداً. وحتى لو كنت أنا من جيل «اولادك» فإنني كنت صديقك، ولذلك فإنك عليك أن تكون صديق الموت الذي يكبرك بملايين السنين. ممدوح.. تحضرني الآن مشاهد كثيرة من العمر الأخير لك.. والذي قضيته معنا هنا في بيروت، وقضيته أنا معك في دمشق يوم زرتها لمدة شهر كامل أول هذه السنة لاعتقادي أن عليَّ اكتشافها حارة حارة، ولاعتقادي الآخر أن على كل عربي أن يملك تجربة معاشة في عاصمة الأمويين. وحيث قلت لك هدفي منه الزيارة أجبتني قائلاً: إن الأمويين كانوا في زمن لم يبق منه سوى مبانيه وأسواقه وأنماط المدينة القليلة التي أوجدوها. ودمشق يا ممدوح المدينة التي عشت فيها أنت ثلاثة أرباع حياتك لم تكن من صنع جبابرة الأمويين الذين تحولوا إلى بعثيين فيما بعد. بل مدينة من ابتكارك المحض، ومن شقائك وعنائك وأنت تصنع لها مع اصدقائك سعد الله ونوّس ومحمد الماغوط من دم الشعر وخشبة المسرح، وهي المدينة التي بنيتها في قصائدك بيتاً فوق بيت لتكون عمارتها من مزيج فريد بين الواقع والمخيلة. وكنت المثقف العنيد الذي بسبب عناده عادته السلطات الثقافية في بلاده، وعاداه اتحاد الكتاب بشخص «رئيسه» بسبب عقلية هذا الرئيس الجامدة! أتذكر ماقلته لي في دمشق من أنك عاتب على الاتحاد الذي كنت من مؤسسيه ولم يرسل لك باقة زهور واحدة في مرضك، وقلت لك وقتها أن لا تعتب على أحد فإنتاجك كفيل بأن يفخر أي اتحاد كتاب بانتمائك إليه، وذكرتك بعبدالوهاب البياتي نزيل دمشق الأبدية يوم قال إن اقصاء أي اتحاد كتاب عربي لكاتب عربي هو وسام له وشرف عظيم، ولن اذكرك اليوم بهذا لمجرد التذكير فقط، بل لأنك ببساطة كنت أهم من هذا الاتحاد وماتزال أهم منه. تحضرني اليوم سهراتنا في بيروت، في منزل شوقي ومطعم الشحرور، وجلساتنا الصباحية في «الويبي» الذي كنت تحبه لشدة انكشافه على الطريق الضاجة بالحياة في شارع الحمرا، وبعدها تحضرني سهرة العشاء في بيتك وكيف كان ابنك زياد القادم من لندن يتألم بشدة من وجع أضراسه في حين كنت غير مبال وتبتسم فرحاً والسرطان ينهش جسدك من الداخل، وأذكر زوجتك المتفانية «الهام» التي كنت وهي معك تشكلان ثنائياً رائعاً، ونموذجاً اسطورياً للعلاقة الزوجية. عزيزي ممدوح.. في هذه الرسالة العاجلة لن أرثيك، فأنت لم تمت، وكما أبطال الالياذة التي ترجمتها ستكون أنت خالداً في التاريخ. ولن أذكر الكثير، فأنت عدت أخيراً إلى الطفولة في قريتك «دير ماما» لتكون لك الأم التي تحضن آلامك. واعذرني لأني لغاية الآن لم أتصل بالصديقة الرائعة «الهام»، فأنا غير قادر على تحويل حزني إلى لغة بليغة، ولا اعرف كيف أفعل هذا.. ولكن حزنت عليك كثيراً.. وقبل أن تتحول إلى تراب أرجو منك قراءة هذه الرسالة..