اعتبرت الدراسة التي أجراها البنك الدولي بالتعاون مع وزارة الاقتصاد والتخطيط السعودية أن رواتب السعوديين في القطاع الخاص الأرخص في سوق العمل على مستوى الدول الخليجية والأوروبية؛ إذ يبلغ متوسط راتب الموظف السعودي 6.400 ريال في نفس الوقت الذي يتقاضى فيه الخليجي 15.200 ريال لنفس الوظيفة بينما متوسط راتب السعوديات 3.900، مقارنة بالخليجيات 8.700 ريال، والأوروبيات 15.000 ريال، وهذا ما جعل فرصة إلحاقهن في السوق المحلية أفضل حالا من أشقائهن الرجال، ولم يكن تصريح البنك الدولي دقيقاً حين خصص تلك الدراسة لتشمل القطاع الخاص فقط؛ لأن الواقع أثبت أن حتى أجور القطاع العام متدنية جدا ليس فقط على مستوى الشرق الأوسط بل وفي الداخل أيضا عندما تقارن برواتب زملائهم من الجنسيات الأخرى داخل الوطن -ولعل هذا يفسر سبب التوظيف (الحاتمي) للفتيات في المحلات التجارية مقابل رواتب ضئيلة جداً لا تلامس الواقع المعيشي للفرد وأقل مما رصدتها تلك الدراسة- وبما أن هدف وزارة العمل القضاء على البطالة والفقر وتوطين الوظائف، فينبغي أن يتم ذلك بشكل متكامل على أن يحفظ للفرد كرامته دون أن تستغل حاجته للوظيفة فيضطر أن يرضى بأي مبلغ يقتات منه، بل من أسس العدل في الأنظمة العمالية أن يمنح الموظف في (بلده) جميع البدلات التي يستحقها دون نقاش مع فرض إلزامية بدل السكن والمواصلات والتأمين الطبي على جميع المنشآت في المملكة؛ لأنه لا فائدة من توفير عمل براتب 3000 ريال لا يكفي لتغطية الاحتياجات البسيطة اليومية بل بالمقابل يصرف نصفه على المواصلات، وتحرم الموظفة نفسها من الذهاب إلى الطبيب لكي لا يصرف لها دواء تضطر لشرائه فلا تجد ما تطعم به أطفالها أو والديها الذين تعيلهم بقية الشهر، ومن يوفر عملاً لانتشال المجتمع من البطالة والدفع بعجلة التنمية، عليه أن يضع بدلات ومميزات تحفظ للفرد كرامته وتوفر له مساحة للحصول على شيء من الرفاهية التي يستحقها ثمناً لعطائه ومجهوداته. ومنذ سنوات ونحن نعاني حرباً خفية مع مستوى الرواتب المتدني الذي لا يتناسب ولا يتوازى مع ارتفاع أسعار المعيشة المستمرة بالارتفاع بسرعة فائقة تقلق من راحة الفرد الذي يتملكه الرعب أغلب الأوقات بسبب التهديد المستمر من الفقر الذي من الممكن أن يسكن بيته في أي لحظة بعد أن طَرَقَ بإلحاح على بابه، فحين تتسلم الراتب تغضب أحيانا وتحتار كيف تجعله يتمدد ليغطي احتياجات أسرتك؟ بينما ترى الموظفين من الجنسيات الغربية ينعمون بالراحة ويتمتعون بمميزات خيالية متعددة تمنحهم وقتاً للاسترخاء دون قلق، وتختفي من حياتك كل وسائل الراحة لتضغط الحياة بمزيد من أثقالها على صدرك وتكتم أنفاسك، ولو تجرأت يوما وأنفقت مالاً لتجرب الإحساس بلحظة ترفيهية، سيغمرك الإحساس بالذنب بقية الشهر وتظل مختبئاً في بيتك نادماً على هذه التجربة وكأنك ارتكبت جريمة. ويسبب ضيق المعيشة حالة قلق وأزمة نفسية تؤثر على مستوى إنتاج الفرد في معادلة صعب جدا أن يتفهمها أي موظف بسيط في بلده الذي يحتضن (أكبر إنتاج وأكبر احتياط وأكبر مخزون وأكبر مصفاة... وأضخم ميزانية)، وليعذرني زملائي الموظفون والموظفات الكادحون وذوو الأجور المتدنية إذا خدش هذا الموضوع مشاعرهم أو أثار أشجانهم؛ إذ طالبنا في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مقال المسؤولين بعدم تجاهل هذه القضية أو التقليل من شأنها، بل طالبنا بزيادة في البدلات ومساواة رواتب السعوديين برواتب ومميزات الموظفين (الأوروبيين والأمريكان) بالتحديد؛ إذ يعد هذا الأمر من أكثر الأمور المزعجة في مسألة تدني الرواتب وتفاوتها بين الجنسيات من أوجه العنصرية البغيضة التي من المفترض أن تعمل على إزالتها حقوق الإنسان، خاصة بعد أن بالغ فيها كثير من الشركات النفطية الأجنبية والسعودية الكبرى التي تمتلكها الدولة أو لها حصة بها في الجبيل والظهران، وكأن الأمر أصبح مُسلَّماً به، إذ خصصت تلك الشركات أعلى سلم في الرواتب للموظفين من القارة الأمريكية والأوروبية بشكل جارح دون خجل، وأبدعوا في تبرير حقوق واحتياجات الموظف (الأوروبي والأمريكي) فمنحوهم بدلات مرضية ورسوم مدرسية لأبنائهم داخل المملكة وخارجها وثمن تذاكر سفر سنوية لجميع أفراد أسرة الموظف وكل ما يحلمون به حتى تكلفة الضرائب منحت لهم دون نقاش، ليأخذوا حقوقاً نموذجية تثبت تناقضاً واضحاً وعنصرية في تطبيق الحقوق باتجاه أناس وحرمانها عن آخرين! وعندما فرضت وزارة العمل نظاماً بتخصيص حصة معينة من السعوديين في كل شركة لم تبذل كثيراً من المفاوضات من أجل ضمان قمة هرم الرواتب والمميزات لمواطنيها بل تركت كثيراً من الشركات تزيد من اتساع الفجوة بين الموظفين واستئثار فجوة بكمية من البدلات والمميزات مما يثير الغيرة والحنق والألم في نفوس زملائهم المواطنين من نفس التخصص، إلا أن قوانين شركات النفط الكبرى المملوكة للدولة مازالت تطبق أكبر عملية انتهاك وظيفي بحق الكوادر الوطنية بمنحهم مميزات ورواتب أقل من (الأوروبيين والأمريكان). وكثير من رؤساء تلك القطاعات والشركات لا يحبون مناقشة تفاوت الرواتب والمميزات، إلا أنني في هذه المسألة بالتحديد سأقارن وبقوة يدفعني عليها حجم إمكانيات بلدي الضخمة التي غطت بمساعداتها العشرات من الدول المتقدمة التي تملك قطارات وشبكة مواصلات عامة، تلك الإمكانيات الضخمة التي شيدت مصانع ومعامل في منتصف الصحراء القاحلة، لن يعجزها رفع مستوى معيشة المواطن، والدولة في الأساس لم تبخل على مواطنيها بل وفرت لهم ميزانية لكافة الاحتياجات... فمن يبخل إذاً!! أصبح من الضروري أن تعمل وزارة العمل على تغيير عديد من البنود والقوانين التي نص عليها نظام العمل والعمال الذي يحتاج لتحديث مستمر؛ ليتناسب مع الواقع وعلى أن تطلق الوزارة آلية أو نظاماً عادلاً يغلق الفجوة بين موظفي الدولة والقطاع الخاص بما يرضي الله ويصب في مصلحة زيادة دخل الموظف بإعطائه جميع حقوقه من بدلات ومميزات تضمن ولاءهم للمنشأة أو صاحب العمل ولكي لا تتسرب الكوادر الوطنية المدربة للخارج بحثا عن الأفضل. ولا أدري لماذا يبدي الاقتصاديون قلقهم من كمية المليارات التي تحول سنويا خارج الوطن!! ستظل قضية تدني الرواتب تتفاقم بحجم الغلاء الذي يحاصرها.