"تويتر" ساهم في إبراز مثقفه الخاص في مقابل تراجع دور المثقف التقليدي، وأصبح التأثير الفكري لشاب لا يتعدى العقد الثالث من عمره على المجتمع أكبر بكثير من تأثير المثقف التقليدي أو النخب القديمة أثبت عام 2011 بلا أي مجال للشك أن ظاهرة شبكات التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد ليست ظاهرة عارضة، وإنما هي بداية التشكل لواقعنا الحقيقي الذي نعيش فيه، ولعل النكتة التي انتشرت في مصر بعد ثورة 25 يناير لها دلالة كبيرة والتي تدور حول قيام كل من الرئيسين جمال عبدالناصر وأنور السادات بسؤال الرئيس مبارك عند لقائهم به عن سبب خروجه من الحكم: "إذا كان سم أم منصة؟" فكان الجواب: "لا، فيسبوك". ومن ينظر للإعلام التقليدي المكتوب والمرئي في عام 2010 لن يجد على الأرجح أي ذكر لشبكة التواصل "تويتر" إلا بصورة عارضة، بينما وخلال عام واحد فقط تحول "تويتر" إلى أحد أسس صناعة الرأي العام إن لم يكن الصانع الرئيس له، ومن ينظر لعدد من القضايا الاجتماعية كقضية حمزة كشغري وقضية الأراضي البيضاء وغيرها سيجد أنها انطلقت في الأساس من "تويتر" وشبكات التواصل الاجتماعي لتصبح قضايا رأي عام تهيمن على الإعلام التقليدي وتوجهه وتفرض نفسها محورا في مقالات الكتاب، فانعكس الوضع حيث أصبح بعض الإعلاميين في الصحف والبرامج الفضائية ينقلون ما يحدث في أرجاء شبكات التواصل الاجتماعي الجديدة بدلا من أن تكون تلك الشبكات هي مجرد متلق وناقل لما يحدث في الإعلام. في بداية يونيو 2009 قامت مجلة التايم الأميركية بعمل تحقيق عن موقع "تويتر" تصدر غلاف المجلة بعنوان "كيف سيغير تويتر العالم" وبعدها بأيام قليلة وضعت هذه الفرضية محل الاختبار بعد انطلاق الثورة الخضراء في إيران والتي شكلت شبكات التواصل الاجتماعي نافذتها للعالم وكذلك وسيلة التواصل والتنسيق بين الشباب الإيرانيين الذين شكلت ثورتهم أقوى تحد حقيقي للنظام الإيراني منذ ثورة 1979 وربما أكثر من تحدي الحرب مع العراق. شبكات التواصل الاجتماعي – ربما – تشكل في جوهرها امتدادا طبيعيا لمسار العولمة، فمن البرقيات اللاسلكية في أواخر القرن التاسع عشر ومرورا بالمذياع والتلفزيون والقنوات الفضائية والإنترنت وحتى شبكات التواصل في مطلع القرن الحادي والعشرين، كان القاسم المشترك هو مزيد من تقارب العالم على صعيد التواصل وانتشار المعلومة مع ما تحمله كل مرحلة من تغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية رديفة. على أن التغير الأبرز الذي تقدمه شبكات التواصل الاجتماعي هي أنها خلقت طريقا ذا اتجاهين بين الملقي والمتلقي بل ودمجت ربما دور الاثنين، فهذه الشبكات خلقت مساحة تفاعل بين كل من فيها، بحيث نزعت "سلطوية المثقف" وأنهت حالة التلقي السلبي من طرف واحد بعكس ما كان سابقا عندما كان الكتاب أو المقال أو البرنامج الإعلامي وسيلة التواصل التي يقف عند طرفها الآخر قارئ أو مشاهد غير متفاعل. هذا التفاعل خلق وعيا اجتماعيا جديدا بسبب الشعور بقوة دور الفرد أيا كان وبقدرته على التأثير في الأفكار، وهو ما ترتب عليه عملية انتزاع لقداسة الأفراد، ففي هذه الشبكات لم يعد للمسؤول أيا كانت هيبته الكبيرة، ولم يعد للمثقف السابق سلطته الفكرية، بل وصل الأمر حد أن هذه الشبكات قامت بتعرية الكثير من الرموز، ولذلك عندما قامت ثورات الربيع العربي كانت هذه الشبكات هي محركها الرئيس لأنها بالأسبقية خلقت عقلا جمعيا قائما على استقلال الفرد من أي سلطة فكرية. "تويتر" وغيرها من شبكات التواصل غيرت العالم بالفعل، وهذا التغير يستطيع المرء تلمسه في عدة مشاهد، ولعل أهمها صعود الاهتمام الحكومي بهذه الشبكات، فالمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية – على سبيل المثال – وبعد ثورة 25 يناير قام بتأسيس صفحة على موقع "فيسبوك" أصبحت بيانات المجلس بخصوص الثورة تصدر منه ولتصبح منصته الإعلامية الرئيسة، والربيع العربي عموما مثال بارز على التغير السياسي الكبير الذي أوجدته هذه الشبكات، "فالشارع التويتري" – إن صحت التسمية – استعاض دور الشارع العربي السياسي تاريخيا، ولم يعد التواصل الاجتماعي والإعلامي بحاجة لتجمعات حقيقية على الأرض أو ديوانيات أو انتظار البرنامج الإعلامي الشهير في آخر الليل أو صحيفة الأخبار في اليوم التالي، التواصل أصبح يتم لحظيا ساعة الحدث أو نشوء الفكرة (real-time)، فالهواتف الذكية في أيدي الناس جعلت هذه الشبكات جزءا من حياتهم يؤثرون ويتأثرون بما يطرح فيها بذات الوقت، فالشارع الافتراضي في هذه الشبكات يندمج مع الشارع الحقيقي. ولأن هذا الشارع بات حقيقيا بالقدر الذي باتت أدواته الإعلامية حقيقية، بدأ هذا الشارع في إبراز مثقفه الخاص في مقابل تراجع دور المثقف التقليدي، وأصبح التأثير الفكري لشاب لا يتعدى العقد الثالث من عمره على المجتمع أكبر بكثير من تأثير المثقف التقليدي أو النخب القديمة، ومع الوقت سيصعد المثقف الجديد من قلب هذه الشبكات وستصبح النخبة في هذه المواقع هي النخبة الاجتماعية الحقيقية، وهو ما سيكون التحول الاجتماعي الأبرز الذي لا مناص من حدوثه مستقبلا ذلك كونه تحولا ناعما يحدث بقوة دفعه الذاتية. خلال هذا المخاض لا تزال الحكومات تقف موقفا معاديا لحركة التاريخ وهو ما يخلق أزمة شبكات التواصل الاجتماعي الراهنة في المجتمعات العربية، فالمنطق السائد لا يزال قائما على فكرة أن هذه الشبكات وما تطرحه من تحولات هو تحدٍّ يجب ردعه أو احتواؤه، بدلا من تطور طبيعي يجب فهمه والتعامل معه.