في كلمة المندوب السوري لدى الأممالمتحدة، بشار الجعفري، حضرت أدبيات مرحلة النضال العربي، خلال الجلسة العلنية الأخيرة لمجلس الأمن الدولي، بعد أن أقحم شعر نزار قباني عن الحرية. مثل هذه اللغة تبدو متوقعة من خطاب هذه الأنظمة في الإعلام والمؤتمرات العربية، وليس مجلس الأمن! اللافت في هذه الكلمة المفخمة بمخارج حروفها استحضار التصورات العروبية القديمة عن منطقة الخليج. فبقدر من التعالي والتظاهر ببطولات غير موجودة عند هذا النظام يقول مندوبه إن بلاده كانت تتبرع لحركات التبرع العربي في الخليج ضد الاستعمار البريطاني، وكانت العروبة فيما مضى تختلف عن الطريقة التي ينظر بها البعض اليوم، وكأن القضية مناظرة تلفزيونية سجالية، وليست قضية نظام يقتل شعبه اليوم بالمدافع والطائرات. أزمته الحقيقية مع الشعب السوري، وليست مع جامعة الدول العربية أو دول الخليج. بعيداً عن هذا النوع من التنميط العروبي الغاضب، حيث يبدو الخليج مجرد محميات غربية وأمريكية في نظرهم. فالواقع أن قصة الخليجي مع الاستعمار والاستقلال أخذت سياقاً مختلفاً، وقد أشار الكاتب رياض الريس في كتاباته عن منطقة الخليج إلى ظاهرة غياب البطل؛ لأن الاستقلال جاء دون نضال. هذا الاختلاف التاريخي أدّى إلى نشوء وعي خليجي مختلف بالآخر في بعض سماته عن الوعي العربي السائد في الخطاب الإعلامي والثقافي، ولأسباب جغرافية سيختلف تصوره للصراع العربي الإسرائيلي عن الوعي الأيدلوجي العربي الذي تشكل في عواصم دول المواجهة منذ مرحلة المد القومي. السياق التاريخي لتطور الوعي العربي الحديث كان متصلاً بمشكلة الاستعمار وتأثيره الاجتماعي والسياسي والديني خلال أكثر من قرن ونصف القرن. من دون معايشة الأجواء والصراعات التي تراكمت منذ زمن الاستعمار، يصعب تصور حقيقة الكثير من الأفكار والمقولات الفكرية والأدبية والدينية، وسيتأثر تفهم مواقف وسير رموز سياسية ودينية وثقافية في التاريخ العربي الحديث. كان الاستعمار حاضراً في العديد من الصراعات الفكرية، ومحاولات التنوير التي أسست لوعي الإنسان العربي المعاصر، وأثرت على أجيال لاحقة منذ خروج المستعمر، وبدايات عصر الانقلابات العسكرية. وقد حرصت هذه الأنظمة على استغلال جميع شعارات مرحلة الاستعمار باستحضار دائم لها، والتغني بطرد المستعمر؛ للحفاظ على شرعيات سياسية تتآكل بمرور الزمن! ربما خسرت الشخصية الخليجية فرصة تصور أجواء أفكار تاريخية سادت في مرحلة المد القومي، لكنها كسبت عدم تعرض وعيها لتشوهات ذهنية صنعتها ظروف تلك المرحلة. ومع انخفاض جاذبية الشعارات الأيدلوجية لديها تحسن وعيها للأولويات التنموية. وهذا أدّى إلى تأخر حالة التسيس الأيدلوجي في وعيها العام. لقد تفاعل الخليجيون مع الخطاب العربي السائد أدبياً وفكرياً ودينياً مما رصدته العديد من الدراسات، وأثّر في نخب وقيادات عديدة في وعيهم النظري الخاص، لكن الوعي الشعبي السائد والتقليدي لم يتصل مباشرة بالكثير من هذه المفاهيم، ولم يعايش اجتماعياً مشكلات الصراع مع الاستعمار. ولأسباب تاريخية في سياسات الإعلام والتعليم والرؤية الدينية كانت الشخصية الخليجية الأقل تأثراً من تلك الأفكار في محيطها العربي. كان للفكر القومي واليسار والمد الناصري حضور منذ الخمسينيات في منطقة الخليج في وعي بعض الناشطين والنخب المعارضة، لكن الكثير من أرائهم وأفكارهم النقدية ظلت غير معلنة في كتابات ومؤلفات خاصة لظروف سياسية واجتماعية؛ لهذا لم تنتشر هذه الأدبيات الثورية والنضالية بصورة واسعة في الوعي الشعبي. مقابل ذلك كان الخطاب الإسلامي أكثر حضوراً وتأثيراً شعبياً. فكر الإخوان المسلمين وكثير من أطياف الحركات الإسلامية المعاصرة منذ الخمسينيات إلى نهاية الثمانينيات كان حاضراً بدعم رسمي لمقاومة الأيدلوجية الشيوعية، والقومية الثورية في الإعلام والتعليم، وحاجة النشاط الديني إلى خطاب عصري. خلال أكثر من نصف قرن تشكل وعي خاص بالآخر والموقف من حضارته وفكره وإنتاجه الثقافي في الخطاب الإسلامي الحديث؛ من أجل تحصين المجتمع من تأثير الأفكار الهدامة ومواجهة التغريب. كانت هذه الأدبيات تؤسس لموقف من الغرب في الجانب الديني والثقافي والاجتماعي، وليس السياسي اليومي. كان الموقف من الغرب يبدو فكرياً أكثر منه سياسياً، بعكس الموقف من الصهيونية والشيوعية، الذي يشمل جميع الأبعاد، بما فيها السياسي. وهذا يبدو متسقاً مع الإطار الرسمي الخليجي في تحالفه مع المعسكر الغربي ضد المعسكر الشرقي في الحرب الباردة. وهنا يخلط البعض عمداً أو دون وعي بين نوعين من التأثير؛ مجال فكري لابد للخطاب الديني أن يكون له موقف ممانع تختلف درجته بين طيف وآخر، وبين مواقف سياسية تتمثل في نشاط سياسي مباشر. كان الآخر في الخطاب الديني التقليدي محدداً وفق رؤى فقهية وأحكام شرعية أكثر منها مواقف سياسية مؤدلجة ضد الغرب. أحكام فقهية ليست جديدة على التراث الديني في تأصيل علاقة المسلم مع الكافر في أدق التفاصيل، بما فيه التهنئة بالمناسبات والتحية بالسلام. مع الغزو العراقي للكويت، وتشكل التحالف الدولي لطرد صدام من الكويت، واجه الجيل الخليجي في تلك المرحلة متغيراً سياسياً كبيراً أثّر على وعيه السياسي. في تلك الأجواء أخذت قضية الوجود الأجنبي بعداً سياسياً ودينياً في سجالات خاصة بين أطياف دينية وثقافية لم يظهر الكثير منها إلى العلن في وسائل الإعلام. انتهاء حرب تحرير الكويت سريعاً أدّى إلى خفوت هذا الجدل، لكنه استمر مع فئات دينية تأثرت بالمرحلة الأفغانية، واستحضرته في صراعات سياسية خاصة، حيث تبلور معها فكر القاعدة في الموقف من الآخر. كان هذا الفكر نقلة في دمج الأدبيات الفقهية التقليدية مع الموقف السياسي والنشاط الحركي، انتهى إلى ممارسة عنفية في مختلف دول العالم. بعد مرحلة صعود موجة هذا الفكر الذي كانت قمته في أعلى البرجين، تضاءلت كثيراً قوة هذه الموجة العنفية، وفقدت جاذبيتها وشرعيتها الدينية. أمام هذه المتغيرات استطاع الوعي الإسلامي الخليجي الحفاظ على بنيته الفكرية، مع تعديلات طفيفة في الخطاب لتجاوز مشكلة العنف، وحافظ الفقه التقليدي على الكثير من أحكامه، مع تصحيح ما كان يبدو مدخلاً لشرعنة العنف، وحافظ الإنسان الخليجي على كثير من سماته الفكرية. لكن مع اتصال الجيل الجديد اللحظي بالعالم عبر شبكات التواصل الاجتماعي تبدو الشخصية الخليجية أمام متغيرات كبرى، بدأت بعض ملامحها في تضخم الاهتمامات السياسية.