لماذا يسيطر على عقول وألباب العقلاء شعور خاطئ؛ مفاده: أن كل ناقد لا بد وأن له طلباً شخصياً، وأنه متى تحقق له ما يريده في خاصة نفسه فسيتوقف لا محالة عما كان يزعم أنه داعية لإصلاحه؟ تلقيت الكثير من الاتصالات من الزملاء ومن غيرهم بعد نشر مقالة الأسبوع الماضي بعنوان (الكيل بمكيالين)، وكان آخر تلك الاتصالات يعرض وساطة بين الكاتب وتلك الجهة المنتقَدة، وكأن الأمر خلاف على شيءٍ يريد كل من الطرفين أن يحظى به أو بأكثره. وللبيان أقول لهؤلاء الوسطاء: قبل نحو سنتين فوجئنا بخبرٍ في إحدى الصحف المحلية من مصدر مسؤول يذكر فيه أن المجلس الأعلى للقضاء قد كَفَّ يد أحد قضاة الشمال عن العمل، وأنه رهن التحقيق في مؤاخذةٍ علم بها المجلس عن ذلكم القاضي، ولم يفصح عنها لتلك الصحيفة. وبعد اكتمال التحقيقات أجرى المجلس المحاكمة التأديبية لذلك القاضي، وانتهت بالاكتفاء بأخف العقوبات القضائية وهي توجيه (عقوبة اللوم) للقاضي بخطابٍ من رئيس المجلس. عندها تساءلت كثيراً: إن كان المجلس قد أصاب في إجراءاته التي اتخذها ابتداءً ضد هذا القاضي، فلماذا لم تكن العقوبة متناسبة مع تلك الإجراءات الصارمة؟ والتي لا يُرمى تحت وقع سياطها إلا من فقد الثقة والاعتبار المطلوبين من مثله. هل تعجل المجلس في أمر القاضي؛ بالتحقيق معه، ثم كف يده، ثم محاكمته، والأمر لا يحتمل كل هذه التظاهرة المتشنجة؛ ما دامت العقوبة لم تتعد اللوم؟ هل من المقبول عقلاً التشهير من ذلك المسؤول بالقاضي المستضعف في الصحافة المحلية بكف يده؟ والحق لم يتضح بعد إن كان معه أو ضده. هل ساوى صاحب التصريح في تشهيره الصحفي بين هذا القاضي وقاضيين آخرين في الوسط والغرب - أمرهما مشتهر ومعلوم لدى المجلس -؟ مع أن المؤاخذة التي على قاضي الشمال (لم، ولن، ولا) يمكن أن تصل إلى درجة ما صدر من القاضيين الآخرَين. هل هذا الخلل في تصور القضايا ودراستها من قبل المجلس عام في كل القضايا المعروضة عليه؟ أم أنه يطرأ أحياناً بحسب شخص القاضي وانتماءاته؟ هل اختلال موازين النظر إلى مخالفات القضاة يكون بالأخذ بجانب التشديد فقط دون التخفيف؟ أم هو كلسان الميزان يميل يميناً ويميل يساراً بحسب قوة الجذب للكفة الأرجح؟ ما هو معيار انتقاء جانب التخفيف والإعراض والتغاضي عن المخالفات حتى يمكن تطبيقه على حالات التخفيف وتقييم التوجه للأخذ به حال حصوله؟ هل مخالفة قاضي الشمال أكبر من مخالفة قاضي الجنوب الذي لم يبحث المجلس أمره من أصله؟ فكيف بالتحقيق معه! أو محاكمته، ثم تأديبه! فضلاً عن أن يُشهَّر به في الصحافة المحلية!! بعد كل هذا أعود للوسطاء الكرام، فأقول لهم ولغيرهم: ما الذي سيستفيده القضاء والقضاة من التوسط بيني وبين الجهة المنتقَدة ما دام الحال سيبقى على ما هو عليه مع سائر القضاة، أو مع السواد الأعظم منهم بعد نجاح الوساطة؟ إن ما بيني وبين الجهة المنتقَدة لا يحتاج لتوسطٍ من أحد، فأنا سأوقف الكتابة عن الممارسات الخاطئة بدون وساطة من أحدٍ حالما تشرع تلك الجهة صادقة في إصلاح ما أفسدته من سياساتٍ قضائيةٍ عادلة، وفي رتق ما انتهكته من تطبيقاتٍ لأنظمة القضاء وغيرها من الأنظمة ذات العلاقة. لماذا يسيطر على عقول وألباب العقلاء شعور خاطئ؛ مفاده: أن كل ناقد لا بد وأن له طلباً شخصياً، وأنه متى تحقق له ما يريده في خاصة نفسه فسيتوقف لا محالة عما كان يزعم أنه داعية لإصلاحه؟ هل هذا الشعور موجود لدى هؤلاء المنتقَدين ولذلك هم يرون الآخرين بذات المنظار؟ هل وصل الحال بالمنتقَدين إلى أن يسيئوا الظن بكل من ليس معهم؟ من باب: إذا لم تكن معي فأنت ضدي .- هل توهم المنتقَدون أنهم مالكون متصرفون فيما قلدهم إياه إمام المسلمين من أمانة؟ فهم يتحكمون بها كما يشاؤون، بلا رقيب ولا حسيب. هل يعلم هؤلاء المنتقَدون: أنه ما لم يكن العرض المقدم منهم محصوراً في: تراجعهم عن كل مخالفة نظامية، وفي تطبيقهم أحكام النظام على الجميع، فإن أمرهم بالتوسط فيما بينهم وبين منتقِديهم باب من أبواب المخالفة المنصوص عليها في المواد (4-8) من مواد نظامها الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/36 وتاريخ 29/12/1412، ومثلهم لا يجهل عقوبتها في الدنيا والآخرة؟ هل أشغل هؤلاء ما يُلاقونه من نقدٍ عن تصريف أمورهم؛ فهم يريدون بذلك التوسط إخلاء الأجواء عن كل ما يكدر عليهم صفو أوقاتهم، وما يحسبون أنهم يحسنون صنعه من أعمالهم؟ إن أمتنا في مرحلة حرجة يعيشها العالم كله في واقعيه السياسي والأمني، ولا نريد أي منغصات تنغص علينا أمننا واستقرارنا، وما هذه الممارسات المتحيِّزة إلا وقود سريع الاشتعال، وما تلك الالتواءات إلا قِداحها.