أكتب هذا الموضوع في ضوء بعض ما وصلني من بعض القراء. وبناء عليه فلا بد قبل أن أمضي في كتابة هذا المقال من التذكير بشيء من صورتنا على شبابيك المعاملات في دوائر خدمات المواطنين العامة.. كما استلمتها في كاريكتير كلامي من أحد القراء. وهي ليست بالصور الغريبة وإن كانت غريبة, إلا أننا لفرط ما تعودناها لم نعد نراها. على أن أي عابر أو عاثر ممن يمر ببعض الأجهزة الحكومية لريثما تستكمل بنية الحكومة الإلكترونية عام 2050م، لا بد أن يراها إن لم يكن اكتوى بصمت من خبراتها. ومن هذه الصور: (تكفى... يالحبيب طالبها من هاللحية الغانمة... أن تخدمني هالخدمة البسيطة من دائرة اختصاصك...) والله إني جايك من مكان بعيد (أرجوك رجوة) أن تقضي لي هذه الحاجة...) جعل عيالك يبرونك عدني حسبت أمك جايتن بتكسي والله مهنا عندي إلا وليد بالمدرسة ما يقوى يخدمني وإلا كان على أمرك أرسلت المعاملة مع (رجال)... (أرجوك... تكفى... جعل الله يسمح أمرك(تدخل هالمعروض)... (طال عمرك لا طولها وهي قصيرة...) أما في مراكز الشرطة ونحوها من الجهات ذات المزيد من الهيبات بالإضافة للهيبة الإدارية فالصور قد تكون أكثر تذللا واستكبارا. وما ذلك إلا مجرد عينة من أساليب التمسح والاستعطاف السائدة بمجتمعنا لحل المسائل وقضاء الحوائج وحتى المطالبة بأبسط الحقوق المبدأية والبديهية. وغير بعيد عن ذلك الأسلوب تصلني ب (رجاء حار) بعض رسائل من المواطنين كثير منها (يتوسل) أن أكتب عن هذا أو ذاك من الموضوعات التي قد تشكل مسائل حياتية أو إشكاليات اجتماعية لدرجة أن بعضها وإن وصلني بالبريد الإلكتروني يكون مبللاً بدموع الاسترحام أو ما إليه من أساليب الاستعطاف التي لا «ترجو» فقط أن أطرح الموضوع بل تحثني لأن أدخل معها شريكاً في (فاصل الاستعطاف والاستجداء) عل استرحامها يصل لهذا المسؤول أو ذاك أو علّ مسؤولاً يلمح مسألتها في الصحيفة. المفارقة الملحوظة في هذا أن بعض ما يصلني من تلك الرسائل يأتي بنفس (الأسلوب الاستعطافي) الذي تشتكي منه بعض الرسائل وهي تأمل أن يؤدي تناول شكواها من الاضطرارا للترجي في قضاء حوائجها لدى مرافق الخدمات العامة إلى توعية تمنع استشراء تلك العادات او بالأحرى العاهات الاجتماعية التي تطلب من المواطن أن يكون شحاذاً محترفاً لينجز معاملاته اليومية البسيطة. وإذا كنت عادة ما أمتثل لواجبي ككاتبة في نقل صورة موضوعات تلك الرسائل مع مراوغة التحول ما أمكن إلى «عرضحالجية»، فإن أسلوب تلك الرسائل كامتداد لاستمرار ذلك السلوك الاجتماعي السلبي بمجتمعنا مما لا يليق بالمتغيرات وارتفاع نسب التعليم، هو أمر لا يزال يحيرني. إذ إنني لا «أفقه» لماذا فيما تلك الشكاوي تكتب محتجة على الاضطرار للاستجداء والاستنخاء خصوصاً بالجهات الرسمية وعند ممثليها فإنها قد تقع في فخ نفس الأسلوب في التعبير عن شكواها. أظن أن هناك إجابة أكثر تعقيداً من تبسيطية هذا السؤال لو أردنا أن نستشير بن خلدون أو هشام الشرابي على المستوى العربي أو عبدالعزيز الخضر على مستوى سعودي في أمر الترسبات التاريخية للسلوك الاجتماعي التي تقف خلف علاقة الغالب بالمغلوب أو علاقة الرمز الأبوي بالأبناء أو علاقة الراعي بالرعية والكيفيات الظلالية التي تجعلها تضوي تحت جنحها نمطاً إنحنائيا من العلاقات. ولكن مع أن موضوع علاقات القوة في علاقتها بالاستقواء والاستضعاف أو التمسكن كجزء من بنية علاقات القوة والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بطبيعة الخطاب السائد هو محور أساسي من محاور أطروحتي الجامعية, فإن هذا السياق الضيق قد لا يسمح بأكثر من أن نذكر بقول «الله غالب». على أن الخلاصة المخلة لموضوع المقال وليس الأطروحة «بالطبع» هي: إن من حق المواطن دون توسل أو استعطاف استيفاء حاجاته والحصول على الخدمات. كما أن من حقه إيصال صوته مباشرة إلى المسؤول صاحب القرار إن أمكن أو عبر الوسائط المدنية إذا كانت توجد في المجتمع مثل هذه الآلية المنظمة التي يجب أن تكون ميسرة ومتاحة للجميع على قدم المساواة. (أكاد أسمع البعض يضحك من الجملة السابقة والبعض الآخر يقول هيهات هيهات!) أيضاً وأيضاً من حق المواطن وأيضاً دون توسل أو استعطاف أن يطرح عبر وسائل الرأي تلك المسائل أو القضايا الحياتية التي قد لا يكون حلها بقرار رسمي وحده كافٍ لتغييرها أو ربما لا يكون حلها بالقرارات بل بتداول البحث فيها على مستوى اجتماعي وفكري وبتحويلها إلى موضوع رأي عام. وفي هذا فإن من الذكاء السياسي على وزن الذكاء الاجتماعي أن لا تجري محاولة شد الفضاء الافتراضي لقسوة مقاييس الواقع تجاه المواقف النقدية الهادفة كبعض الاجتهادات الشبابية بل العمل على تعلم سعة صدر ذلك الفضاء لفتح تلك المسارات المسدودة في علاقة المواطن بالمسؤول ولاجتراح أشكال أكثر مدنية وأقل توحشا في العلاقات الاجتماعية والسياسية. على أني لم أقم في هذا المقام بأكثر من عرض لمحة من رأس الجليد لتلك السلوكيات الاجتماعية (الاستجدائية) التي تشير مجرد إشارة إلى أننا لم ننتقل بعد من العلاقات الرئيسية إلى العلاقات الأفقية ومن علاقات الفوقية إلى علاقة المساواة في الانتماء إلى وطن وإلى دولة عصرية وإلى مجتمع مدني لا يزال جهازه المفاهيمي مستبعداً من التعاملات. وهذا يشير بوضوح إلى مدى حاجتنا للعمل الاجتماعي والسياسي والفكري «دولة ومجتمع بمختلف القوى الاجتماعية» لاستبدال (ثقافة والاستجداء) ب(ثقافة الأخذ والعطاء) مثل ما يقتضي الأمر استبدال (ثقافة المنة بثقافة الواجب) و(ثقافة التسفيه أو التنطيش بثقافة الإصغاء) و(ثقافة الاجترار بثقافة التجديد في كل من علاقاتنا الاجتماعية خلف الكواليس وخطابنا الإعلامي. على أن ذلك لن يتسنى لنا بدون الاحتكام، (ليس في الأحلام)، إلى منظومة قانونية واضحة وملزمة وبأسلوب يحافظ على كرامة كل الأطراف الاجتماعية واحترامها. فلعل ذلك يمكننا من تطوير علاقات اجتماعية وسياسية تقوم على أسس التساوي في المواطنة لا لأسلوب الاستجداء والتمنن في العلاقات بين المواطن والمسؤول. ولله الأمر من قبل ومن بعد.