هذه رسالة إلى الشعب الليبي الحبيب وقد جمعتني بعدد منهم صداقات طويلة، سواء أيام الدراسة أو بعدها، وكما عرفتهم فهم شعب شجاع، صادق وصريح جدا، وهذه صفات تؤسس للصراع. الشعب الليبي شعب عربي أصيل وغيور، ولعل هده الصفات جاءت من التركيبة القبلية له. فمن الملاحظ أن الشعب الليبي يختلف عن باقي شعوب المغرب العربي، بل لعله أقرب لشعوب الجزيرة العربية من حيث التركيبة القبلية وثقافة الولاء، وما هؤلاء الذين يقاتلون خلف القذافي حتى الآن وقد بدت لهم عوراته إلا نزعة وعصبية قَبَلية أصيلة. في ليبيا قبائل عدة حتى عدتها بعض التقارير بثلاثين قبيلة ذات نفوذ منها قبيلة بني سالم (في برقة) وبني هلال (غرب ليبيا) ورفلة وترهونة (في الشمال الغربي من ليبيا). ولقد كان القذافي يدير البلاد بذكاء وفق معادلة توازن بين هذه القبائل والحق أنه أجاد اللعبة ولمدة 40 سنة حتى انهارت عليه فجأة، واليوم وبعد انهيار نظام القذافي فإن الشعب الليبي في مهب الريح ومفتوح على كل الاحتمالات، خاصة أنه لا يملك رصيدا كبيرا من العمل الديمقراطي - مثله في ذلك مثل كل الشعوب العربية وعدد كبير من شعوب العالم الأخرى. مشكلة الديمقراطية في العالم العربي قديمة، بل متجذرة، فنحن - كشعوب عربية - ومنذ القدم تسوسنا ملوك ومشيخة، حتى عندما قامت الانقلابات العسكرية باسم الثورات الشعبية سرعان ما تحولت إلى النسق القديم نفسه وأصبح الرؤساء ملوكا باسم الديمقراطية والعمل الجمهوري، بل يريدون توريث الرئاسة كما يورث الملك. والحق أن الرؤساء والنظم لا تلام على ذلك بقدر ما تلام الثقافة الشعبية المتجذرة في الشعوب العربية. حتى بعد نجاح الثورات الربيعية في مصر وتونس وليبيا، فإنها لم تزل - حتى الآن على الأقل - مجرد انقلابات على شخصيات الرؤساء ولم تصل حد الثورة على العمق الثقافي الذي أوجد هؤلاء الرؤساء والشعوب البائسة من تحتهم. فمن الواضح بعد هدوء الثورة أن المجتمع عاد لثقافته المتجذرة فيه فبدأ يبحث عن المُخَلص والرئيس المجدد وليس عن حكم القانون ومؤسسات المجتمع المدني - ثقافة الديمقراطية الحقة. وتأكد البحث عن هذا الرئيس ""الملكي"" الذي يجب أن يحل محل الرئيس الملكي السابق سعيا لضبط المجتمع مع ظهور ثورات مضادة لمجموعات من المجتمع تقرر بذاتها قرارا تعتبره ثوريا ثم تنفذه ثوريا، مدعية أنه إرادة الشعب ولا حاجة إلى القانون. إن الرصيد المتوارث من العمل الديمقراطي وحكم القانون وممارسة الخضوع له تتجلى في قدرة الشعوب - كشعوب بلا مخلصين - على النهوض بعد كل كبوة وقدرتهم على الاستمرار والبقاء والتأثير. لذلك استطاع العالم الغربي - كشعوب وثقافة - أن يستمر وينهض بسرعة رغم الحروب الطاحنة التي مر بها، والسبب تجذر ثقافة العمل الشعبي في هذه المجتمعات وليس بسبب تسييس الملوك لهم، وفيهم قال الصحابي الجليل عمرو بن العاص - رضي الله عنه، قبل 14 قرنا من الزمان ""إنهم أحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وأمنعهم من ظلم الملوك"". في المقابل تجد الأمم التي ليس لها رصيد من العمل المجتمعي تتعثر في خطاها الديمقراطية الحديثة، حتى اليهود لم يكن لهم مثل هذا الرصيد الثري من العمل الديمقراطي؛ ذلك أن أنبياءهم كانت تسوسهم كما ورد في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ""كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم كلما هلك نبي خلفه نبي""، ولهذا لم يستطع اليهود إنشاء دولة عبر تاريخهم الطويل في انتظار النبي المخلص لهم، وما يحدث الآن في فلسطين لم ينشئ دولة حقيقية بعد بقدر ما هي مستعمرات سميت دولة. لهذا السبب أيضا فشلت كل التجارب العربية في العمل الجمهوري والديمقراطي، وما هذه الثورات إلا عودة للمربع الأول، بل الملاحظ أن الدول التي تعرضت لخطر الثورات كانت تعمل وفق ثقافة ليست أصيلة في المجتمع العربي الذي يؤمن بحكم ""الشخص الواحد"" وقيادته، حتى انبهارنا غير المبرر بشخصيات مثل مهاتير محمد ورئيس الوزراء التركي رجب طيب يأتي بتأثير واضح من إيماننا بقدرات الشخص المخلص لنا، متجاهلين النظام الذي أوجدهم. حتى العمل وفق نموذج الملكية الدستورية لم يولد إلا مشكلات حكومية وتأخيرا في النمو وصراعات على الحكومة وبعدا أكثر فأكثر عن فلسفة العمل الديمقراطي وإن تجلت في تلك الدول بعض من مظاهرة. ومع ذلك - في نظري - أن أنجح التجارب في الحكم العربي كانت تلك التي أنتجتها تجربة الإمارات، حيث كانت مجرد إمارات وقبائل وشيوخ اتحدت تحت نظام فيدرالي (وفق نموذج عربي) فكان متميزا. قبل عام 1971، كانت الإمارات تعرف بالإمارات المتصالحة بناءً على الهدنة الموقعة مع المملكة المتحدة البريطانية وشيوخ تلك المنطقة، ثم قامت بريطانيا بإبرام العديد من المعاهدات معها، بما في ذلك معاهدة تنظيم الملاحة البحرية لتنشأ دولة ذات سيادة بسلطة في يد مجلس أعلى وليست في يد ""شخص واحد"" فقط. حيث نص الدستور الإماراتي على أن المجلس الأعلى للاتحاد هو السلطة العليا فيه. ويشكل من حكام جميع الإمارات المكونة للاتحاد، أو من يقوم مقامهم في إماراتهم، في حال غيابهم ، أو تعذر حضورهم. ولكل إمارة صوت واحد في مداولات المجلس. وينتخب المجلس الأعلى للاتحاد من بين أعضائه، رئيسا للاتحاد ونائبا لرئيس الاتحاد. ومدة الرئيس ونائبه خمس سنوات ميلادية. ولقد حقق هذا العمل السياسي الفريد نموذجا اقتصاديا فريدا أيضا شهد به العالم. وخلاصة القول، إن الشعب الليبي سينزع إلى تاريخه الأصلي وثقافته المتجذرة كشعب عربي وسيكون من الصعوبة بمكان إحلال العمل الديمقراطي محل العمل الدكتاتوري ببساطة، بل إن تورط ليبيا في صراع دام على السلطة (نسأل الله أن يبعده عنهم) وهو الأكثر احتمالا عندي؛ ذلك أن العمل الديمقراطي غير الأصيل في الشعب سيولد صراعا دمويا ومثل ذلك كثير في العالم، فلم يعرف التاريخ دكتاتورا تمت تنحيته في بلد ليس له تاريخ ثري وعميق في ثقافة الحراك الشعبي إلا تولد عن ذلك التنحي صراع دموي، ومثال ذلك واضح في الصومال والدول الإفريقية وأفغانستان وعدد من دول أوروبا الشرقية وليس العراق منا ببعيد. ولتجنب تورط الشعب الليبي في صارع دموي يجب الانتقال للعمل الديمقراطي بهدوء وليس بتهور والارتكاز على ما يفهمه الناس وما ألفوه وهو المشيخة والعمل القبلي. وللتوافق وتجنب الصراع ثم وضع خريطة طريق استراتيجية نحو تثقيف المجتمع ديمقراطيا وتطوير البلاد والنهوض السريع أعتقد أنه يمكن لليبيا العمل مؤقتا وفق تجربة الإمارات العربية المتحدة.