غيرت الحركة الاحتجاجية المنبعثة من بنغازي دور المعارضة الليبية وصورتها بشكل كامل. أما المعارضة المتواجدة في المنفى والتي كانت تتحدث باسم الشعب الليبي في العواصم الدولية، فقد أضحت بين عشية وضحاها بلا معنى يذكر. الباحث الألماني المختص في شؤون شمال إفريقيا هانسبيتر ماثيس في قراءة المعارضة الليبية حاليا. رغم اختلاف مكونات المعارضة الليبية إلا أنها تجمع على هدف واحد وهو إسقاط نظام القذافي. تغيرت صورة المعارضة الليبية منذ ثورة السابع عشر من فبراير في تقسيمها بين الداخل والخارج وفي مكوناتها بشكل كبير، لكن ما يوحدها هو الرغبة في الإطاحة بنظام القذافي علاوة على تشتتها الكبير. إذ أنه إلى هذه المعارضة ينتمي أنصار النظام الملكي والقوميين الوحدويين والإسلامويين، ونشطاء حقوق الإنسان والمدافعين عن النموذج الغربي للديمقراطية. فقد رفعت "ثورة" الفاتح من سبتمبر 1969 والتي قامت ضد النظام الملكي الذي كانت تقوده أسرة السنوسي شعار محاربة الفساد والرقي بليبيا، وقدمت الثورة في خطب القذافي و الكتاب الأخضر ووثائق أخرى الأساس الإيديلوجي لها والطريق الذي ستتخذه. كما نظر إلى كل أشكال المعارضة كخيانة للثورة تعاقب بالإعدام. أما التطورات السياسية التي عرفتها البلاد منذ عام 1969 فقد طبعتها الصراعات التي دارت بين قيادة الثورة والطبقات الاجتماعية والمجموعات المهنية التي كانت تقف حجر عثرة ضد التحول لأيديولوجي أو تعارضه. وأولى المكونات الاجتماعية التي وقفت عن وعي ضد الإجراءات السياسية الجديدة كان الطلبة والمثقفين الذين رفضوا الخضوع للخط الجديد. لقد رفضوا الأوامر السياسية للقذافي وطالبوا بإصلاح سياسي عبر الأحزاب والنقابات والاتحادات المهنية الحرة، لكن النظام الجديد واجههم بقمع شديد. أما المجموعة المهنية الأخرى التي كانت هدفا لقمع القذافي بعد ثورته الشعبية التي أعلن عنها عام 1973 فكانت فئة الموظفين، التي طردت من وظائفها ليعوضها ما اصطلح عليه القذافي اللجان الشعبية. أما الثورة الإسلامية التي أعلن عنها القذافي عام 1975 والتي نظر إليها رجال الدين السعوديون كنوع من الهرطقة، فقد قادت إلى اصطدام النظام بشكل علني مع الأئمة ورجال الدين في ليبيا. وحتى في هذا السياق قمع النظام المعارضين بقوة ولم يكن الشيخ بشتي وحده من دفع حياته ثمنا لتمسكه بالحديث والسنة وانتقاده للتقويم الشهري الذي فرضه القذافي، إلخ.. وازداد الوضع خطورة لما قام القذافي ومن أجل حماية نظامه عام 1976 بتنظيم أتباعه الأوفياء في لجان ثورية في عموم أرجاء البلاد، وهم من استطاعوا القضاء على مقاومة التجار وملاك البيوت والشركات وتطبيق الجزء الثاني من "الكتاب الأخضر" المتعلق بنزع المليكة وتطبيق سياسة إشتراكية. قمع في الداخل والخارج "على الرغم أن الشباب الليبي خصوصا، وأعضاء من القبائل والعائلات الكبرى واتحاد المحامين في بنغازي من عمد إلى تنظيم الاحتجاجات، لكن قرارات المجلس الانتقالي تتخذها القبائل أو ممثلوها" عرفت ليبيا، خصوصا في الثمانينيات، عشرات من عمليات الإعدام، بل حتى المعارضين الليبيين المقيمين في الخارج لم يكونوا في مأمن من قمع القذافي، فاللجان الثورية طاردتهم في أماكن وجودهم في روماولندن وبون وأماكن أخرى، وقامت باغتيالهم. وتتحدث الأرقام عن أكثر من ثلاثين جريمة سياسية في هذا السياق. وبالنظر إلى ذلك، فإنه ليس صدفة أن تتأسس، ومنذ نهاية السبعينات، عديد من حركات المعارضة الليبية وخصوصا في الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا بهدف قلب نظام الحكم في ليبيا، ومنها "الحركة الوطنية الديمقراطية الليبية" عام 1979 و"المجموعة الإسلامية" في العام نفسه، والجبهة الليبية الديمقراطية الوطنية عام 1980 والجبهة الوطنية من أجل إنقاذ ليبيا عام 1981 أو حركة الكفاح الوطني الليبي التي تأسست عام 1985. لكن العديد من حركات المعارضة في الخارج والتي تجاوز عددها خمسة وعشرين حركة لم يعد له دور يذكر، خصوصا أن هذه الحركات عرفت اختلافات كبيرة ولم تستطع إلا عبر جهد كبير من أن تنظم مؤتمرين وطنيين في لندن عامي 2005 و2008. وأهم هذه الحركات "حركة الكفاح الوطني الليبي" بزعامة ابراهيم صهد و"الاتحاد الدستوري" بزعامة محمد بن غلبون صاحب الاتجاه الملكي والذي يدعمه ولي العهد الليبي محمد ابن سيد حسن السنوسي، وينشط في شرق ليبيا، بل إن علم الملكية الليبي أصبح اليوم رمزا لحركة المعارضة الليبية. أما بداخل ليبيا فإن أبرز وجوه المعارضة جاءت من الجيش ومن الإسلاميين في سنوات التسعينيات. فبعد الاحتجاجات الأولى التي عرفها الجيش الليبي في عامي 1977 و1980 ، قام عسكريون من قبيلة ورفلة في مارس 1993 بتمرد ضد القذافي من أجل الإطاحة به وتحقيق حضور أكبر لرجال القبيلة في المراكز العسكرية العليا والمناصب السياسية. وقد تم إعدام المشاركين في التمرد عام 1997. وفي مارس من السنة نفسها أوحى القذافي للمؤتمرات الشعبية بالتصويت على قانون شرف، يسمح بمعاقبة القبائل عبر حرمانها من خدمات الدولة، إذا عرقلت عملية تسليم نشطاء المعارضة. مكانة المعارضة الإسلامية عمد القذافي على مدى عقود حكمه الطويلة إلى تصفية معارضيه سواء في الخارج أم في الداخل لكن أخطر من ذلك على النظام الليبي، كانت الجماعات الإسلامية، مثل "الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا" و"حركة الشهيد الإسلامية الليبية"، التي تأسست في سنوات التسعينيات على يد المجهادين العائدين من أفغانستان. لقد دخلوا في حرب من أجل الإطاحة بنظام القذافي وتكوين دولة إسلامية، لكنهم فشلوا في النهاية وقتل أغلبهم أو سجن. وفقط مع تدشين سيف الإسلام القذافي لسياسة المصالحة الوطنية، بدأ إطلاق سراح السجناء الإسلاميين، ومع بداية العام الجاري أطلق سراح آخر سجناء هذه الحركة وكان عددهم يقدر حينها بمائة وثلاثة عشر سجينا. أما المعارضة التي يغلب عليها طابع إثني، فلم تتمكن من التعبير عن أهدافها إلا بشكل غير منظم وفردي في السنوات الأخيرة. ويتعلق الأمر هنا أيضا بالحركة الأمازيغية المعارضة التي تناضل ضد التهميش اللغوي والثقافي للأمازيغ في ليبيا، الذين يمثلون عشرة في المائة من سكان البلاد. لكن الكونغرس الأمازيغي الليبي الذي تأسس عام 2002 لم يعبر عن مطالبه بشكل عسكري، بل تمكن عام 2007 من عقد مؤتمره العام، ليقدم بعدها مطالبه إلى النظام الليبي، لكن دون نتيجة تذكر. أما التوبو في جنوب ليبيا فقد نظموا في السنوات الأخيرة العديد من المظاهرات، انتهى بعضها بشكل دموي، وهذا يفسر أيضا دعم جبهة التوبو لإنقاذ ليبيا برئاسة عيسى عبد المجيد منصور لحركة المعارضة التي انطلقت شرارتها في السابع عشر من فبراير، بشكل ساهم في تحرير جنوب شرق ليبيا. المعارضة منذ ثورة السابع عشر من فبراير أسئلة مفتوحة تتعلق بمستقبل البلاد، فهل ستختار ليبيا نظاما ملكيا أم تبقي على الجمهورية؟ هل ستختار نظاما رئاسيا أم ديمقراطية برلمانية؟ وماذا عن دور الدين في الدولة؟ غيرت الثورة التي انطلقت شرارتها الأولى في بنغازي دور المعارضة وصورتها بشكل كامل. والواقع أن المعارضة الليبية في المنفى، والتي دافعت في العواصمالغربية خلال السنوات الماضية عن حقوق الشعب الليبي، أضحت بين عشية وضحاها مفرغة من كل معنى، لكن مع وجود استثناء وحيد وهو المعارضة الملتحمة بالنظام الملكي السابق. وفي أغلب العواصم الأوروبية يقود أتباع المعارضة الليبية مظاهرات ضد نظام القذافي بل وتمكنوا من السيطرة على بعض السفارات. وحتى داخل البلاد تغيرت صورة المعارضة بشكل كامل، فبعد سيطرتها على شرق ليبيا بأكمله، أصبحت بقايا النظام القديم من تمثل اليوم المعارضة. إن حركة الاحتجاج الناجحة التي أصبحت حاضرة في كل مكان، داخل مجالس البلديات وأصبحت منذ السابع والعشرين من فبراير ممثلة على مستوى إقليمي في مجلس وطني انتقالي، تجد دعما قويا من القبائل الليبية المتمثلة في قبائل الزواية والعبيدات وأولاد علي وقبائل أخرى كثيرة. فعلى الرغم أن الشباب الليبي خصوصا، وأعضاء من القبائل والعائلات الكبرى واتحاد المحامين في بنغازي من عمد إلى تنظيم الاحتجاجات، لكن قرارات المجلس الانتقالي تتخذها القبائل أو ممثلوها. وهو ما يمكن قوله أيضا عن اللجان العسكرية التي كونها الضباط المنسحبون من الجيش الليبي والذين أصبحوا اليوم في خدمة ثورة السابع عشر من فبراير. لقد توضحت معالم حركة المعارضة في غرب ليبيا أيضا، فقد تخلت معظم القبائل عن نظام القذافي منذ العشرين من فبراير، كما أن منظمات شبابية تأسست ومن بينها "شباب ثورة السابع عشر من فبراير" في طرابلس. لكن وعلى الرغم من نجاح ثورة المعارضة الليبية في شرق البلاد، إلا أن هناك شيئا واحدا يوحدها حتى الآن هو إسقاط نظام القذافي. أما كيفية تنظيم مستقبل البلاد فهو أمر لم يتم التطرق إليه حتى الآن. فهل ستختار ليبيا نظاما ملكيا أم تبقي على الجمهورية؟ هل ستختار نظاما رئاسيا أم ديمقراطية برلمانية؟ وماذا عن دور الدين في الدولة؟ هل سيكون هناك نظام مركزي أم نظام فيدرالي؟ كيف سيتكون العلاقة بين اقتصاد الدولة واقتصاد السوق؟ وأي حقوق ستحصل عليها النساء والأقليات؟ كل ذلك مازال غير واضح، ما ينذر بمرحلة يطبعها غياب الاستقرار. هانسبيتر ماثيس مراجعة: هشام العدم حقوق النشر: قنطرة 2011 هانسبيتر ماثيس باحث ألماني معروف يعمل في جامعة هامبورغ وهو نائب رئيس معهد "جيجيا" للدراسات الشرق أوسطية