بالتأكيد أردوغان ليس عمر بن الخطاب «رضي الله عنه»، وليس عمر بن عبدالعزيز أيضاً، ولن يكون الخليفة السادس، ولا المهدي المنتظر، مهما سوّق نفسه أو سوّقه «الإسلامويون» في منطقتنا، لكن ما الذي جعل هذا «الأردوغاني» يسلب عقول وألباب الناس، خصوصاً خلال السنوات الأخيرة؟! بالنسبة لي لا شك عندي أنه سياسي بارع، وأنه واحد من أفضل من يجيدون قواعد السياسة والتلاعب بها، بما يخدم مصالحه الشخصية ومصالح «أديولوجياته» التي يعتنقها، إضافة إلى مصالح بلده. لكن أردوغان يبقى في النهاية إدارياً محترفاً، أدار بلدية اسطنبول بطريقة ذكية ولكن باتجاه «القبلة الغربية»، وأعاد بناءها بعدما تحولت إلى مكب للنفايات في تركيا، لتكون نموذجاً ينتقل به من حضن آسيا إلى حضن الاتحاد الأوروبي. تلك الإدارة الذكية التي عرف من خلالها كيف يستفيد من إمكانات بلده من دون أن يدفع كثيراً، وأن يوسع الفضاءات أمام تركيا لمصلحة اقتصادها أولاً وأخيراً. وعلى رغم خلفيته الإسلامية المنفتحة، إلا أنه لم ولن يبقى أسيراً لتلك الخلفية، فهو لم يستخدمها إلا لكسب التأييد للمشروع التركي في المنطقة العربية، بحثاً عن تمدد السلطنة العثمانية من جديد، ليس عبر الغزوات العسكرية، ولكن من خلال الغزوات السياسية، والمقايضة الديبلوماسية، وسرعة التحرك في القضايا العربية والإسلامية ذات الشعبية والاهتمام لدى الجماهير. وهي لا تتطلب استثماراً كبيراً بل تطلب حركة ديبلوماسية سريعة غير مكلفة، وهو ما بدا واضحاً في ليبيا وسورية، وأخيراً في زيارته للصومال، إذ دفع البعض مئات الملايين، بينما دفع أردوغان قيمة تذكرة ذهاباً وإياباً لمقديشو، ومؤتمراً صحافياً ليعود إلى أنقرة محملاً بالغنائم، ليكسب أكثر بكثير لمصلحة السلطنة «الأردوغانية» أكثر ممن دفع مئات ملايين الدولارات. لكن هل تلك البرغماتية «الأردوغانية» موقتة؟ وهل يسعى بالفعل لإعادة تركيا إلى سلطنة عثمانية بخليفة يحكم العالم؟ حيث لا يبقي الإسلامويون ولا يتركون مثالاً يخدم سعيهم للحكم في العالم العربي إلا وجلبوه لتسويق حلمهم الذي يناضلون من أجله منذ بداية الحركة الإسلامية بداية القرن الماضي وحتى اليوم. ولأن النموذج التركي برومانسيته العالية هو الأقرب والأكثر حضوراً في وجدان الشعوب العربية على الأقل حالياً، تجده أكثر حضوراً في الخطاب الإسلاموي والأكثر ترويجاً. لكن هؤلاء المبشرين بالخليفة أردوغان، وتصويره وكأنه عمر بن عبدالعزيز هذا الزمان يخفون في جيوبهم تضليلاً كبيراً، فهم لا يحبون النموذج التركي المنفتح على الحياة والعالم، ذلك النموذج الذي تخلص من عقد الرجعية والماورائية، لكن تقديمهم وترويجهم للنموذج الأردوغاني، المقصود منه فقط هو تبرير الوصول للكرسي وحكم الشعوب العربية بقبضة رومانسية غير واقعية. فهل هم قادرون على الالتزام بالنموذج التركي كاملاً بكل قيمه المنفتحة، اجتماعياً وتسامحاً طائفياً ودينياً؟ هل هم قادرون على تقديم تلك الالتزامات للشعوب العربية التي يطمحون إلى حكمها؟ فهم يخفون أن أردوغان استطاع الانتقال بتركيا من دولة متخلفة اقتصادياً إلى أحد النمور الجدد في الاقتصاد العالمي من خلال الأدوات الاقتصادية الغربية، الذي استخدمه أردوغان بلا تحفظ ولا التفاف ومن دون أن يتيه في صحاري الوهم وخداع النفس والتابعين بوجود نموذج اقتصادي محلي قادر على بسط الرفاه على الشعوب. بل إن القيم الغربية الاقتصادية والاجتماعية، بكل ما فيها من سلبيات وإيجابيات، تتجسد في شوارع اسطنبول أكثر بكثير من شوارع لندن وباريس ونيويورك، ومن دون أن تطالها يد تدعي أنها تحتكر الفضيلة أو الحقيقة.