الست سنوات الماضية التي تولى فيها خادم الحرمين الشريفين قيادة هذه البلاد كانت حافلة ومليئة بالمبادرات التاريخية التي انعكست وسوف تنعكس بشكل أكبر على الداخل والخارج إذا ما تم تفعيلها وفق سياقها الحضاري. ولعلي هنا أجدني منجذبا إلى الحديث عن حوار الحضارات الذي انطلق بمبادرة من قبل الملك عبدالله بن عبدالعزيز في نوفمبر 2008 م. هذا المشروع كان في السابق عبارة عن حلم راود الكثير من المفكرين ابتداء بالمفكر الفرنسي روجيه جارودي عبر نظريته الرائدة ومشروعه للجمع بين الحضارات المختلفة، على أساس أرضية مشتركة للتفاهم على مستوى شعوب الأرض، وسماه ب"حوار الحضارات" والذي استطاعت المملكة ببعدها الحضاري والسياسي ترجمته إلى أرض الواقع عبر مبادرة الملك عبدالله لحوار الحضارات، وذلك أثناء انعقاد مؤتمر الأممالمتحدة الثالث والستين والذي كان له أصداء إيجابية واسعة. فالدور الإسلامي الذي تقوم به السعودية على المستوى السياسي والشعبي نابع من مسؤوليتها الدينية من خلال احتوائها أقدس مقدسات المسلمين: مكةالمكرمة والمدينة المنورة، بالإضافة إلى رايتها الخفاقة دائما ب(لا إله إلا الله محمد رسول الله) وهو ما اختاره الملك المؤسس ليكون جانباً عملياً بعيداً عن المزايدات في الأسماء التي تطلق والألقاب التي تعلق، ولعل القدر السياسي كان سابقاً حيث إن هذه البقعة من الأرض كانت دائماً محط أفئدة المسلمين ومصدر وحدتهم وإلهامهم. الجديد اليوم هو أن تكون المملكة مصدراً لتفاهم أكبر وحوار أعمق بين أصحاب الأديان السماوية وليس تقارباً بقدر ما هو تفاهم وحوار. إن الدعوة التي أطلقها الملك عبدالله بن عبدالعزيز تؤكد على تفعيل حقيقي لهذا الدور والحوار في ظل دعوات لصدام الحضارات وتأجيج هوة النزاع وتصاعد اليمين لدى كل الديانات وهو مؤشر يقود العالم إلى الصدام والنزاع والحرب، فتصاعد تنظيم القاعدة في العالم الإسلامي يصاحبه تصاعد اليمين في العالم الغربي ومسلسل الإساءات المستفزة تجاه المسلمين في أوروبا. ثمة صوت نشاز يتصاعد من قبل بعض أتباع هذه الديانات ينبغي إسكاته والسيطرة عليه من خلال الفسح للعقلاء بالحديث وإبراز صوتهم بشكل أكبر، فكثيراً ما يعبر المتطرفون لدى كل دين عن انطباعاتهم بأصوات عالية تقطع التواصل مع تلك الأصوات الهادئة والرزينة. لا شك أن لدينا عقلاء قادرين على التفاهم والحوار وليس ثمة ما يخيفنا ونحن أرباب خاتم الديانات وأكملها، كما أن لدى الطرف الآخر صوتاً أكثر اعتدالاً من تلك الأصوات السيئة والمسيئة لنا كمسلمين على خلفية تناولها لمقدساتنا. فحقبة التسعينات شهدت ولادة (نهاية التاريخ) لفوكوياما و(صراع الحضارات) لهنتنجتون وهما امتدادان لنظرية واحدة تُعنى بانتهاء حقبة الحروب بين المعسكرات وامتدادها بين الثقافات، كما شهدت تلك الفترة ولادة تنظيم القاعدة في منتصف التسعينات تحت مسمى (الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين) تلتها بعد ذلك حروب هي أشبه بترجمة لهذه النظريات المتطرفة تمثلت في غزو العراق وأفغانستان بمبررات مغلوطة صادق عليها العالم ولكون آراء علماء المملكة العربية السعودية والذين يمثلون وجهة النظر السلفية مقصدا لكثير من الباحثين الغربيين من أكاديميين وسياسيين لا سيما فيما يتعلق بالآراء السياسية الطارئة أو فيما يعرف شرعيا (بفقه النوازل)، بالإضافة إلى قضايا أخرى تتعلق بحقوق الإنسان والمرأة ، فإن هذا النهم المعرفي الغربي تجاه علماء المملكة العربية السعودية يصاحبه تقاعس في رصد وجمع هذه الآراء وترجمتها والاستكتاب لها من قبل العلماء، مما جعل الكثير ممن هم بعيدون عن هذه المؤسسة وفهم مرتكزاتها الدينية يكثرون من الحديث عنها وهو ما شكل بروز مصطلحات حديثة غير دقيقة على هذه التسمية ك"الوهابية"، ومن حيث البعد العقدي بجعل القاعدة بكل تداخلاتها الفكرية وليدة المنهج الديني السعودي حسب توصيفهم الخاطئ. الفراغ الكبير الحادث لا يمكن أن تردمه مؤتمرات الحوار وندوات التقارب برغم أهميتها إلا أن نتائجها السياسية من خلال الثقل المعنوي لاسم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يمكن أن تساهم في إعادة تشكيل الرأي العام الغربي وهو ما بدت بوادره من خلال مؤسسات أكاديمية بدأت تتعامل مع هذه المبادرة بمهنية ومصداقية. المشوار لا يزال طويلا أمام تفعيل حقيقي لقطف ثمار هذه المبادرة على المستوى الثقافي العالمي.