محمد الصوياني - الرياض السعودية } أخرجه الظلم من منزله.. أخرجته عبارات تقذف زوجته الطاهرة، فتوجه إلى منبره ليعلن أنه جريح، وأنه يُطعن بخناجر مسمومة في عرضه كل يوم، رغم أنه قائد الدولة ونبي الأمة عليه السلام.. توجه إلى شعبه لا ليهدد ويتوعد، بل ليستشيرهم ويشكو أوجاعه لهم، علّهم ينصفونه من (المواطن) ابن سلول من دون أن يسميه. قال إنه (قد بلغ أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلاّ خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي - صحيح مسلم). كلمات أحرقت جوف سعد بن معاذ أسد الإسلام وسيد الأوس فهتف بنبيه: (أنا أعذرك منه يا رسول الله.. إن كان في الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك؟، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً ولكن اجتهلته الحمية، فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله - مسلم). لم يطق (أسيد بن حضير) أحد شباب الأوس ألفاظ ابن عبادة فصاح في وجهه: (كذبت لعمر الله، لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين - مسلم). ردود أفعال صارخة.. منها الغاضب لله، ومنها الغاضب للحمية.. تسلل منها التكفير، فانسلت لها سيوف الفتنة، وكثر اللغط في المسجد، فراقص الشيطان قلب (ابن سلول عميل اليهود) أملا أن تلون الدماء جدران المسجد، فقد (ثار الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا - مسلم). في تلك اللحظات شعر عليه السلام بوطنه، وأن العملاء يريدون حرباً أهلية ووطناً ممزقاً، لكنه الحكيم والقدوة.. تناسى ذاته وحقه وهو (قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت - مسلم)، ثم انطوى على جراحه موقناً أن الحقيقة قد تسافر، لكنها تعود لا محالة، فلا ضير من انتظارها، فقد لقي في مكة ما هو أسوأ طوال ثلاث وعشرين سنة. لذا لم يحشد المهاجرين لمؤازرة الأوس، ولم يؤيد سيفي ابن معاذ وابن حضير، ولم يلتفت لحمية ابن عبادة، بل التفت للوفاء، تذكر حبهم له وتفانيهم من أجله، فهم بعد الله نصيره عندما عز النصير، وملاذه عندما ضاقت الأرض به وبأصحابه، وهم شعبه وقرة عينه، ورأس ماله رضي الله عن صغيرهم وكبيرهم، ووحدة شعبه وأمنه أهم من أن ينتقم لنفسه، فهو (والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط -البخاري) لذا اكتفى عليه السلام بإسكات غضبهم، لترتد الفتنة في صدور أهلها. أما عائشة التي أضناها البكاء، فكانت خلف الباب تنصت للغة الدماء التي كانت ستسفك غضباً لها، أو حمية لعدوها، وهي لا تريد لأحد أن يموت من أجلها.. كل الذي تريده أن تظهر براءتها، وأن تسترد قلب حبيبها.. تتحدث عن حزنها وحزن والديها فتقول: (بكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي - مسلم)، وتمر الأيام تحسبها بالدموع والأنين، وتبث شكواها للرحيم الذي أنزل براءتها وكرمها فجعل الطعن في عرضها طعنا في كلامه سبحانه. ويؤذن بلال فيتهادون نحو بيت الله، ثم ينصرفون وقد تطهروا بالندم.. خجلين مما بدر منهم، فنبيهم لم يؤيد خصومتهم، ولم ينصر طرفا على طرف، بل شغفهم عليه السلام بوفائه وحلمه وحبه واحترامه لهم.. ذات يوم حاصره بعضهم يسألونه من بيت المال، فألجأوه إلى شجرة فخطفت الشجرة رداءه فقال لهم: (أعطوني ردائي فلو كان عدد هذه العضاه - أي لو كان عندي عدد هذا الشجر - نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا - البخاري) ولو كان غير ذلك لنفروا منه ولما اتبعوه وفدوه بأرواحهم وهو النبي، فالله يخاطبه: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر).. أسكنوه أروع الأماكن في قلوبهم حتى قال أحد خصومه: (والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمدٍ محمداً -البخاري).