قلنا في الحلقة الماضية غزوة المريسيع من الغزوات ذات الأحداث الجسام، سبق الحديث عن دور المنافقين ومؤامراتهم المدبرة لتفريق وحدة الصف ولا سيما بين المهاجرين والأنصار، ومن ثم بين الأنصار أنفسهم (الأوس والخزرج) ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عالج ذلك ببراعة وحكمة والحدث الجسيم الآخر حادثة الإفك وسنعرض هذا الأسبوع بهذه الحادثة في الأسطر التالية. أوذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أهله، وكانت محنة حادثة الإفك أشد في وقعها على نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كل المحن، حيث طعن في أخص ما يعتز به إنسان، وأخص ما يتصف به من شرف وكرامة، حيث ابتلي في زوجه عائشة -رضي الله عنها- مع حرصه عليها وحبه -صلى الله عليه وسلم- لها، وقد أخرج البخاري ومسلم حديث الإفك في صحيحيهما وهذا سياق القصة: قالت عائشة -رضي الله عنها-: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما نزل الحجاب، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوته تلك، وقفل ودنونا من المدينةالمنورة قافلين، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين أذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فإذا عُقِد من جزع ظفار قد انقطع، فالتمست عقدي، وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري، الذي كنت ركبت، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم، إنما تأكل العُلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل، وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داعٍ، ولا مجيب، فأممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبيننا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، فوالله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبدالله بن أبي ابن سلول). نزول الوحي ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم الغيب إلا بوحي من الله سبحانه وتعالى، كما أن الوحي لا يأتي حسب إرادته -صلى الله عليه وسلم-، لذا عانى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذه الحادثة، فقام خطيبًا في أصحابه، حيث روت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع من تولى أمر الإفك (قالت فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يومه فاستعذر من عبدالله بن أبي، وهو على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما يدخل على أهلي إلا معي. قالت: فقام سعد بن معاذ، أخو بني عبدالأشهل، فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام رجل من الخزرج، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، وهو سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله، لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائم على المنبر. قالت: فلم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخفضهم حتى سكتوا وسكت).. ومن هذا الحديث تظهر الحادثة الثالثة الخلاف بين زعيمي الأنصار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وكاد الأمر أن يتسع بين القبلتين لولا حكمة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، كما ظهر جليًا دور المنافقين في بث الفرقة والخلاف ولكن انتهاء المشكلة يعتبر ضربة قاسية لهم، حيث لم يتحقق ما أرادوا، أما فيما جرى بين السعدين (سعد بن معاذ وسعد بن عبادة) يبين أنهم بشر يجري بينهما وعليهما ما يجري بين بقية الناس، فهما مجتهدان غير معصومين فلهما التقدير والاحترام بين المسلمين، ولهما من الفضل ما ليس لغيرهما. وتروي أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بعد وصولهم إلى المدينةالمنورة، حيث تقول: (فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرًا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر..). ومضى شهر كامل لا تعلم أم المؤمنين بما يتناقله الناس حولها، ولكنها فقدت ما اعتادته من تلطف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها حين تشتكي، وهذا من حسن تعامله -صلى الله عليه وسلم- حيث لم يزدها على مرضها بشيء من حديث الإفك بالرغم من أثره عليه -صلى الله عليه وسلم- ومن مرور شهر والناس يفيضون فيه وهو صابر -صلى الله عليه وسلم- وإنه لدرس في الحلم والمعاملة والصبر لحدث عظيم مثل حادثة الإفك. وقد علمت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فجأة عندما خرجت مع أم مسطح في قضاء الحاجة حيث تقول: حتى نقهتُ، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع، وكان متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلًا إلى الليل، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، قالت وأمرنا أمر العرب الأول في البرية قِبل الغائط وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. والمناصع التي ذكرتها أم المؤمنين هي الجزء الشرقي الشمالي خارج بيوت المدينة آنذاك يطلق عليها أحيانًا اسم البدار (للمبادرة إليها عند مجيء الليل لقضاء الحاجة) كانت لقضاء الحاجة ولا سيما أثناء الليل للنساء، دخلت مساحتها ضمن الحرم النبوي الشريف، والكنف هي دورات المياه. وتواصل أم المؤمنين الوصف بكل دقة فتقول: فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبدمناف، وأمها بنت صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبدالمطلب، فأقبلت أنا وأم مسطح قِبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تَعِس مِسطح، فقلت لها: بئس ما قلتِ، أتسبين رجلًا شهد بدرًا؟ فقالت: أي هَنَتَاهُ! لم تسمعي ما قال؟ قالت: وقلت: ما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك.قالت: فازددتُ مرضًا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت له: أتأذن أن آتي أبوي؟ قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قِبلهما. فأذن لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت لأمي: يا أمتاهُ! ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية! هوني عليك. فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت: فقلت: سبحان الله، أو لقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحتُ لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي قالت: وأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويومًا لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى أني لأظن أن البكاء فالق كبدي. فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنتُ لها فجلست تبكي معي. معالجة القضية وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدة أمور حول معالجة قضية حادثة الإفك قبل نزول الوحي وذلك وفق الخطوات التالية: - دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث الوحي، يستأمرهما في فراق أهله. وسأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الجارية. كما سأل زينب بنت جحش -رضي الله عنها-. مفاتحة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعائشة وجوابها له: ولقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني، قالت: فتشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين جلس، ثم قال: "أما بعد، يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله، وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه" قالت: فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما قال، قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت لأمي: أجيبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالت: فقلت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقني، والله ما أجد لكم مثلًا إلا في قول أبي يوسف قال: (فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون) قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيًا يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت: فوالله ما رام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرحاء حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجُمَان من العرق، وهو في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي ينزل عليه.قالت: فلما سُرِّي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرِّي عنه وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: "يا عائشة أما الله عز وجل فقد برأك" فقالت أمي: قومي إليه، قالت: فقلت: لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل. فأنزل الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي توَلَّى كِبرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) الآيات.