ترتكز الليبرالية في نسختها الغربية وفي محضنها التأسيسي الأم على منظومة من المحدّدات التي تشكّلت ملامح معالمها انطلاقاً من مركزية ألهنة العقل وتهميش النقل والتأبي على مقتضياته والتحرر المنفلت وإنكار الحقائق المطلقة والحكم بتاريخية التنزيل وبالتالي فتح النص على كافة الاحتمالات التأويلية الأمر الذي قاد إلى أنسنة الإله والحكم بموت المتعاليات والقول بظنية القطعيات والانفكاك التام بين الدين والحياة وذلك كله تحت شعار رفع سقف الحرية العقلية والفردية ومطاردة عامة عقابيلها. هذا البعد الفكري لتلك الظاهرة الثقافية لا يستريب أي عقل له قسط وافر من التحصيل العقدي الممنهج في مدى مناهضته لمنطق الاستدلال المؤصل ومصادمته وبشكل صارخ لمقومات القيمة المعرفية المستوحاة من النص التأسيسي الأول ولذلك فليس لهذا الضرب من الفكر أي وجود في الداخل المحلي ولو استقصيت أحوال الطرح الليبرالي في المشهد السعودي القائم لأعياك العثور ولوعلى أطروحة يتيمة تحتفي بذلك الطابع الفكري أوتعلي - بشكل مباشر - من منسوب ترويجه في الأوساط القرائية بل على العكس ستجد جلّ الأطروحات المحسوبة على ذلك التوجه محتوية على كَمّ مفرداتي يفيد الاستدراك والاحتراز الذي يجري استصحابه كثيراً تحاشياً للوقوع في شَرك الليبرالية من حيث هذا الوجه. ولذلك يتكررعلى مسامعنا مفردة:أنا ليبرالي ولكن.. هذا السلوك بحد ذاته هو اعتراض جلي على الليبرالية الفكرية وهو من جهة أخرى مؤشر على أنه ليس كل من تشدق بالليبرالية فإنه يعتنقها وليس كل من رفع شعارها يتقاطع مع الأصل الفكري الذي تتأسس على ضوء محداته. وعلى الصعيد الشخصي تربطني علاقات عدة مع جملة أفاضل من المنتمين لذلك التيار ينتمون إليه لكنهم عند التمحيص هم أول الرافضين لمقتضيات ذلك الانتماء فهم لا يلتزمون بلوازمه ويرفضون التقاطع مع مؤدياته المقاصدية. كثير من النماذج الجادة الموصوفة بالليبرالية لو تتبعت طبيعة إنتاجها لألفيته يتمحور في معظمه على رفع وتيرة التبجيل لمفردات مدنية الطابع من قبيل المناداة بتكثيف مؤسسات المجتمع المدني وتوسيع المشاركة الشعبية وتعميق حركة التحديث وكل هذا ونحوه من التفاصيل الدنيوية المحضة لا ضير على من أعلى لواء التنظير لها ولا تثريب عليه بل هذا شأن يفترض الاحتفاء به والتواصي عليه؛ المحذور هنا هو الادعاء بأن الليبرالية هي فحسب من يحفل بهذا اللون من الأنشطة وتجاهُل أن هذا هو مرام كافة من يتوخى الإصلاح. إن النظام الإسلامي بطبيعته ليس له تحفظ على مثل تلك الأشكال التنظيمية إذا لم يترتب عليها محذور ورضيتها القيادة العليا الضابطة لسفينة المجتمع. إن أدبيات بنية التشريع الإسلامي دائماً تؤسس في بنية الوعي المتماهي مع إملاءاتها ضرورة الاهتمام بتنظيم النشاط الدنيوي وضبط شبكة علاقاته المتعددة انطلاقا من قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» فهذا النص النبوي يطلق العقل ويفتح الباب واسعا أمام الإنسان ليجتهد في أمور دنياه وليتعاطى معها على النحو الذي يضمن له حسن استثمار المعطيات والبراعة في توظيفها. إن مما يخفى على كثيرين هو أن المناحي المدنية لها بعدان يفترض عدم الخلط الفوضوي بينهما: بُعد فني قافل إلى الإنسان واكتشافاته أي أنه مؤسس على السنن الحاكمة لحياة البشر فهو يُستقى من التجربة التي يمتح منها العقل فيرشّد ويصحح وينتقي ويقرر ويقيّم ويقوّم وهناك بُعد تشريعي مستوحى من المُشرع الأساس وذلك فيما يتصل بتجسيد العدل وإقامة صور الخير وتطبيق تجليات العدالة بين الأناسي. وعلى سبيل المثال فالإسلام لم يحدد شكل نهائي للحكومة ولكنه ركز على جملة من القيم لتكون حاكمة للنظام الحاكم كالنزاهة والعدالة والأمانة ووضّح الحقوق لكل من الحاكم والمحكوم وحظ على وحدة الصف واجتماع الكلمة وتفادي كل ما من شأنه تحويل المجتمع إلى كتل متصارعة تقوم على التناطح المقوض للسلم الأهلي. تأمل مثلا في حد التعزير فهو حد فُتح فيه المجال للحاكم ليتحرك في بحبوحة رحبة وليتعاطى مع كل حادثة بما يلائمها على نحو ينسجم ومراعاة تفاوت مستويات الجانحين. إن الإسلام ومن قبل أن تولد الليبرالية جاء مهيمنا على الحياة وموجها لأوجه الحياة البشرية بكليتها «ما فرطنا في الكتاب من شيء» ولم يغفل الدين جانباً من الجوانب ومع أن الحوادث مطردة والصيرورة لا تتناهى والواقع ديدنه التحول إلا أنه مع ذلك فنصوص الوحيين هي التي تقود زمام الراهن وتوجه تحولاته وتضبط أشكال الحراك العام. النصوص ليست طوباوية تتمنع على التشخيص نعم النصوص المتصلة بالنشاط العملي بزخمه المتعدد ليست بتلك الكثرة ولكن عدم كثرتها هو سر صلاح الإسلام وشموليته لكل زمان ومكان؛ محدودية النصوص أمر مقصود لذاته لماذا؟ لأن محدوديتها هو الذي فتح باب الاجتهاد أمام العقل ليمارس إبداعه فلم يحصره في نطاق ضيق بل حداه للتّماس مع الواقع والانفعال الفاعل مع حيثياته؛ تلك النصوص القليلة أسست قواعد كلية ووضعت لوناً من الأبجديات الشمولية والتقعيد العام الذي ظل وما زال أرباب الاختصاص يحلقون في فضاءاته فيفرّعون عليه ويؤسسون على مَفاداته - الفينة بعد الأخرى - أحكاماً تترى استجابة لضروب المستجد الحيواتي واستيعاباً لتمظهراته التي لا تكف عن الانهمار.. وهكذا نرى أنه ليس ثمة مسوغ لاستدعاء مصطلح ثقافي وافد ومحاولة تبيئته واستنباته في بيئة تنهض في مجمل تركيبها الثقافي على نسق تتنافى مكوناته والجذر الفلسفي لمصطلح الليبرالية.