انباؤكم - خالد العنزي بين الهوية والمرشد الأعلى برغم يقيني بأن الحالة الليبرالية في السعودية لم تتشكّل بعد على هيئة تيار لأسباب ليس هذا المقال محل نقاشها لكنني سأستخدم مصطلح (تيار) عند وصف هذه الحالة لان مصطلح تيار عادة ما يطلق على أي حركة أو طيف فكري اصطلاحا أو تجاوزاً كفعل وصفي فقط وليس نتيجة تقييم مستوى إنتاجه الفكري وقياس تأثيره أو المنظومة المعرفية التي تشكلها التيارات داخل مجتمعاتها . لا يجد من يحاول إن يؤرخ لظهور الحالة الليبرالية في السعودية تاريخا محددا أو تقريبياً بسبب إن الصورة العامة لها كانت فردية وذات سمة أدبية صرفة ولا يوجد ممارسة ذات بعد سياسي أو حركي بل تتم تحت مظلة الشعر والأدب بالإضافة إلى عدد ضئيل جدا من التكنوقراط في بعض مؤسسات الدولة , كذلك ربما لأن المناخ الاجتماعي والسياسي والديني في السعودية غير مهيأ لتقبل هذه المفردة في لغة وقاموس المجتمع الدولة. في المقابل كانت مفردة الحداثة في بعدها الأدبي تحديدا هي التي يتم تداولها داخل المشهد السعودي ذلك المشهد الذي كان همه الأول وشغله الشاغل هو عملية التنمية التي أعقبت الطفرة الأولى حيث انشغلت الدولة والمجتمع باستحقاقات المرحلة وعملية البناء للإنسان والمؤسسات . كان ذلك في مرحلة سابقة للمواجهة التي حدثت بين جيل الصحوة والحداثيين حيث كان عنوان تلك المرحلة هو ثنائية الإسلام والعلمانية وكانت الليبرالية اصطلاحا ومفهوما غير مطروحة على الإطلاق بل إن الليبرالية كانت مفردة سياسية بحته تتناقلها وسائل الإعلام عن أنظمة الحكم في الولاياتالمتحدة وأوربا مقابل الأنظمة الشمولية في المعسكر الشيوعي المقابل . لذا يمكن القول أن الممارسة الحداثية تشكلت أدبيا وليس فكريا أو قيميا لدي بعض النخب من خلال النص والنقد بل توصف الحالة الحداثية بأنها متقوقعة على ذاتها وتعاني من عزلة لعدم قدرتها على الانخراط في المشهد الثقافي السعودي لأسباب عديدة , وترتب على ذلك محدودية أنشطتها والتي اقتصرت على الشعر النشر والترجمة والدراسات النقدية حيث كانت الأندية الأدبية هي المنبر الرئيسي لها بالإضافة إلى بعض النشرات والدوريات الشعرية والثقافية فقط. في الضفة الأخرى كان التيار الديني موحدا ويمتاز بدرجة عالية من الانضباطية على المستوى الحركي والرسمي, ويعيش حراكا كبيرا جدا حيث شكلت الصحوة تحولا كبيرا في بنية وذهنية المجتمع وكان التيار قد أنجز مراحل عديدة من مشروعة وأضفى عباءته على بعض مؤسسات الدولة كما أصبح لدية منظومة متكاملة من المؤسسات التعليمية والإعلامية والاجتماعية وأنشطة إغاثية ودعوية ربطته بالشارع بشكل وثيق وقد أنتجت الصحوة قيادات شابة تمتلك القدرة على التعبير عن خطابها الذي صبغته مرحلة الجهاد الأفغاني بشيء من الحدة تجاه أي طرح من خارج الحالة الإسلامية , والحقيقة إن التيار الديني الرسمي لم يكن يرغب في المواجهة لكن هذه القيادات المتحمسة هي من دفعت بهذا الاتجاه لأسباب عديدة منها ما يتعلق برغبة جيل الصحوة بتحديد موقع لهم داخل بنية التيار الديني في السعودية وأخرى يتحمل مسؤوليتها الحداثيين أنفسهم , ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن مراحل وظروف تكوّن العمل الإسلامي بشكل مؤسسي في السعودية ولكن الأمر أقتضي الإشارة إلى ذلك. في حقيقة الأمر إن النتيجة التي آلت إليها المواجهة بين الحداثيين والصحوة هي من وضع الحداثيين في مرحلة من التأمل وإعادة قراءة الذات وطرح وتساؤلات عميقة لكنها لم ترتقي إلى مستوى المراجعات الشاملة لمستقبل الحداثة في السعودية وهنا ظهر السؤال الكبير الذي قاد عملية التحول ؟ هل كان تعثر مشروع الحداثة في السعودية بسبب طبيعة هذا الفكر! أم إن المجتمع السعودي قد حسم أمره بأنة لا مستقبل لأي مشروع من خارج الهوية الإسلامية , وربما أدرك الحداثيين أخيرا إن مشروعهم بحاجة إلى عملية جراحية تجميلية فكرية كبرى على مستوى الهوية . التحولات التي أفرزتها حرب الخليج الثانية في بداية التسعينات خصوصا المواجهة بين بعض رموز التيار السروري والدولة بسبب الاستعانة بالقوات الأمريكية والمخاوف من بقائها سببت نوع من الفتور في العلاقة بين الدولة التيار الديني وقد استطاعت المؤسسة الدينية الممثلة بهيئة كبار العلماء من التدخل لضبط الشارع وتعضيد موقف الدولة إمام المجتمع لكن التيار الخصم حاول جاهدا استثمار الموقف للإيقاع بين الدولة والتيار الديني بغية تقديم نفسه كبديل يمكن للدولة الاعتماد علية وقد كانت قضية الهوية هي العائق الأكبر لطموحات هذا التيار في دولة تشكل الشريعة الإسلامية الدستور والمنهج لها , من هنا كان لابد من استعارة قبعة وهوية جديدة يراهن عليها التيار وكانت الليبرالية هي المظلة الجديدة بسبب الحضور الذي تمتلكه في العديد من المجتمعات العربية والإسلامية بسبب قيمها الجاذبة مثل الحرية والمساواة والنهضة والحقوق الشخصية مما دعي الإنسان العربي المسلم إن يتعلق بها في ظل غياب مشروع حضاري إسلامي وعربي يمكن له الرهان علية . لكن ما علاقة هذا الأمر بهوية التيار في السعودية ؟ للإجابة على هذا السؤال نستعرض ما كتبة الكاتب الأردني الدكتور شاكر النابلسي وهو المرشد الأعلى للتيار في السعودية في مقال بعنوان ( الليبرالية السعودية مالها وما عليها) نشر في جريدة الوطن بتاريخ 6 يونيو 2009 في سياق تثبيت هوية الليبرالية السعودية يقول فيه مايلي ( فالليبرالية السعودية - وكما بيّنا سابقاً- ليست بضاعة مستوردة، وليست صناعة غربية أو شرقية، وليست من أفعال السحر والشعوذة، وليست ألاعيب حواة.إنها بكل بساطة الإسلام المعاصر، والإسلام النقي، والإسلام القابل للتطبيق في عصر العولمة، وثورات العلم والمعلومات والاتصالات ) إذن الليبرالية السعودية هي نجدية التربة ، شمالية النشأة ، وربما حجازية الهوى ! جاءت من فضاءات الإسلام , وتخلّقت في رحم الشريعة الإسلامية ! وهذا هو إجابة السؤال الذي تم طرحه سابقاً , لكن المرشد الأعلى لم يقل لنا كيف نجيب على سؤال لطالما سبب حرجًا بالغًا لليبراليين هو عدم وجود اصطلاح عربي مرادف لكلمة (ليبرالية) التي ترجمت حرفياً من اللغة الانجليزية وهو سؤال الهوية الأول!!. لكن هذا الحرج لم يمنع رموز هذا التيار من الانخراط في صراعات ومواجهات لتأصيل الهوية للحالة الليبرالية السعودية واضعين نصب أعينهم القناعة التي توصلت إليها تجربة الحداثة في حقبة في الثمانينات في السعودية التي تدرك إن اكتساب الشرعية لهذا التيار لن يتحقق إلا بزرع بذور الليبرالية في صميم البنية والتكوين العقدي والفكري للإسلام وعندها يمكن الاحتجاج بأن المعركة ليست مع الإسلام كدين ولكنها مع تيار لدية صورة واحده ونموذج فهم متكلس للكيفية التي يتعاطى ويتفاعل بها المشروع الإسلامي مع الحضارة الإنسانية ,ويقصدون بذلك التيار الديني و السلفي تحديد الذي يحتمي خلف حرفية النص وينافح عن حماه . تبنى رموز هذا التيار تكتيك فكري جديد يقوم على فلسفة إنتاج الليبرالية من داخل دائرة الإسلام وليس من خارجه ونفي أي علاقة لها بالمشروع الأم ولتحقيق هذا الهدف راجت فكرة إعادة قراءة ودراسة التراث الإسلامي من خلال المدرستين الكبيرتين المتمثلة في منهجية الحفر والتنقيب في التراث لدى محمد عابد الجابري ومنهجية التفكيك والزحزحة لدى محمد أركون والتي تأسست وفق مناخ فرانكفوني وبيئة فلسفية منتجة للقيم الليبرالية وليست ومستوردة أو مستهلكة لها كما في النموذج العربي , مع ربطها مع مرحلة نشوء علم الكلام في التاريخ الإسلامي . لكن ماهي المنهجية التي اتبعها التيار لتحقيق ذلك ؟ إذا تذكرنا إن الإنتاج المعرفي للتيار مايزال غائبا بل انه ليس لديه أي رصيد معرفي ظاهر، لأن التراكم المعرفي للمشاريع لايتشكّل إلاّ بعد مرحلة الهوية والتي أوضحنا سابقا أنها لم تحسم إلى الآن بالنسبة للحالة الليبرالية ؛ عندها سندرك لماذا لجأ التيار إلى العمل على ثنائية القطعي والظني في الشريعة الإسلامية بحيث ينقل القطعي إلى حيز الظني ومن ثم يتم إعادة قراءته وتأويله بروح ليبرالية وصولاً لاستخدامه كدليل في تثبيت وتكريس هوية التيار , وفي هذا السياق استعان الإعلام الليبرالي في مشروعة نحو تثبيت الهوية بأسماء كانت تحسب على الدائرة الإسلامية قادتها تجربتها الشخصية التي لاعلاقة مباشرة للتيار الديني فيها إلى الانتقال إلى الدائرة الليبرالية وقد استفاد الإعلام من الخلفية الشرعية لهؤلاء في محاولة الربط بين الليبرالية والإسلام بالإضافة إلى الاستعانة بهم لصياغة خطاب (ليبرواسلامي) موجه للدولة والمجتمع , ونظرا لكون هذه الأسماء لا ترتقي إلى مستوى الرمزية عندما كانت داخل الحالة الإسلامية جعل الاستشهاد بتجربتهم نوعا من القياس الفاسد . في تقديري الشخصي إن التيار لن يستطيع حسم قضية الهوية على المدى القريب لجملة من الأسباب أهمها انه ما يزال محصورا داخل دائرة رد الفعل وعدم قدرته على الانتقال إلى حيز الفعل مما اكسب أطروحته سمة التبعية وليس المبادرة وهي معضلة كبرى وضعه فيها التيار الديني حيث أثرت على قدرته في صياغة علاقاته مع الدولة والمجتمع .