خالص جلبي - الوطن السعودية قالت زوجتي زدني من أخبار الرجل. تذكرت قصة حيران والشيخ في كتاب نديم الجسر (قصة الإيمان بين العلم والفلسفة والقرآن). قلت عاش الرجل في القرن الخامس الهجري في وقت صعب، ومنطقة الشرق الأوسط تعصر بين فكي الصليبيين والمغول. هل هي صدمة الأوضاع؟ هل هو فعلا فقط الشك الفلسفي كما يرويه في كتابه "المنقذ من الضلال" هل هي حالة النرفانا بتعبير الهنود؟ يقول الرجل كما جاء في السيرة عن سيد الأنام الرسول العدنان (ص) إنه حُبِّب إليه الخلاء. إنه كان يقدم رجلا ويؤخر أخرى في قرار الرحيل والاختفاء. ويصف حالته من الشك أنه وصل إلى حالة لايذوق فيها طعاما وشرابا، فاحتار في وضعه الأطباء. وقالوا هو أمر لاطاقة لنا به، وأمره بين يدي الكبير المتعال. يقول أبو حامد الغزالي كنت أدرّس في المدرسة النظامية لمئات الطلبة ثم اعتراني الشك في كل شيء. وكانت مدارس العصر في أيامه تتراوح بين أربعة اتجاهات هي الباطنية والمتكلمة والفلاسفة والصوفيين. قال فعزمت على مسح تيارات العصر (أحوِّل كلماته إلى ما نتكلم به حاليا) فقعدت ثلاث سنين إذا فرغت من تدريس الطلبة تفرغت لسبر غور هذه الأفكار. يقول إنه وصل بسرعة لتفنيد آراء المتكلمة والباطنية، أما الفلاسفة فغاص فيها أكثر حتى وصل إلى منتهى قولهم وآرائهم. وعلم أنه لاينبغي الرد على فرقة وفكرة قبل الوصول إلى قرار عمقها، بل والزيادة فيها كأنه من أتباعها ومريديها، حينها ينضج الرد. وبهذه الطريقة أخرج لنا كتابه تهافت الفلاسفة، الذي جاء الرد عليه لاحقا من أبي الوليد بن رشد من غصن الأندلس الرطيب في تهافت التهافت. وحين وصل إلى بوابة التصوف أدرك أن الأمر مختلف؛ فهنا العمل ليس عقلانيا بل نوع من التدريب الروحاني، وأمام هذه البوابة وقف حائرا مترددا، وبقي على هذه الحالة طويلا حتى عزم واتخذ قرار الهجرة والاختفاء من وجه الناس والخلائق. قلت لزوجتي أشرح لها. هنا لانعلم ماذا حدث مع الرجل بالضبط لأنه غاب عشر سنين عددا. أين كان يعيش؟ كيف كان يعيش؟ كيف كان يقضي وقته؟ لا أحد يعلم ولم يقل هو شيئا. نحن نميل للنوم. أما هم فكانوا يقظين يرمقون الكون بعين حالمة يبحثون عن أسئلة ممضة. ما معنى الوجود؟ ما معنى وجودنا؟ كيف نعرف الله ونصل إليه؟ هل من خالق؟ ما معنى الموت وهل من شيء بعد الموت؟ كيف يعمل الكون؟ ما هي قوانين الوجود؟ ما هو مجرى التاريخ ومعناه؟ هل نحن كائنات رماها القدر أم وعي ومصير وإرادة، وعشرات الأسئلة الرديفة تحتاج لإجابة، ومن النوع المقنع. إن إبراهيم مر في نفس الأزمة الوجودية كما حصل مع تولستوي لاحقا مع فارق النهاية؛ فأما إبراهيم فاطمأن قلبه، أما تولستوي فبقي في الحيرة لاينام حتى لحظة الموت في محطة الشمال. يذكر الرب في سورة الأنعام تلك المناجاة الجميلة وهو يبحث عن الرب في النجم والقمر والشمس، ثم يقول إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض. كذلك نرى تلك المناجاة وهو يريد معرفة سر الموت والحياة والنشور؛ فيأتيه الجواب على نحو عملي في الطير يصرهن إليه ثم يجعل على كل جبل منهن جزءا ثم يدعوهن فيأتينه سعيا. إنها رحلة جميلة أليس كذلك؟ هكذا بقي أبو حامد الغزالي عشر سنوات مختفيا لا أحد يعلم على وجه التحديد أين قضاها؟ بعضهم يقول كان يعمل خادما في المسجد الأموي يكنس الجامع ثم يأوي إلى المنارة فيقبع فيها بقية الوقت يتأمل. بعضهم روى عنه حتى رده في مجلس مناظرة لسؤال مفحم فتدخل فأنقذ الموقف؛ فلما بحث عنه القوم اختفى من جديد. وبعضهم يقولون إنهم رأوه في المسجد الأقصى. كيف كان يعيش بدون مال ونفقة عقدا من الزمن؟ من كان يطعمه؟ لانعلم. كل ما نعلمه أنه خرج من غاره الخفي؛ فطلع علينا بأجمل كتابين (إحياء علوم الدين) في ثلاث مجلدات قرأتها أنا بشغف فاستفدت منها وبعضها انتقدت، وكتاب (المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال).. فيجب قراءته جنبا إلى جنب مع كتاب رينيه ديكارت في كتابه الشهير الذي جرى له ما يشبه ما حدث للغزالي في رحلة الشك إلى ميناء اليقين (المقال على المنهج)...