«لم يلزم - أبو حامد الغزالي - مذهباً من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشاعرة أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف، وحتى انه كما قيل: يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن، وإن لقيت معدياً فعدناني». قائل هذا الكلام هو فيلسوف قرطبة ابن رشد، الذي خاض مع أبي حامد الغزالي بعد مئة عام وأكثر من موت هذا الأخير، ذلك «السجال الفلسفي» الذي يعتبر الأكثر شهرة في تاريخ الفكر العربي، والذي تجلى في كتاب ابن رشد «تهافت التهافت» الذي يرد فيه على فكر الغزالي ولا سيما على كتاب «تهافت الفلاسفة»، الذي يعتبر، الى جانب «إحياء علوم الدين» الأهم والأشهر بين كتب الغزالي قاطبة. وترتبط اهمية «تهافت الفلاسفة»، وفق الأب موريس بويج اليسوعي، كما وفق مؤرخي الفكر العربي، في شكل عام، في اتصاله «بمرحلة حاسمة من سيرة حياة الغزالي الفكرية والروحية التي ابتدأت بالإقبال على تحصيل الفلسفة وانتهت بالثورة عليها والجنوح نحو الصوفية، وقد وجد اليقين الذي يبحث عنه...». و «تهافت الفلاسفة» هو كما نعرف كتاب يدحض فيه الغزالي «تهافت» الفلاسفة المسلمين، مؤكداً «تناقض كلمتهم في ما يتعلق بالإلهيات»، وقد حفزه على ذلك ما رآه من «انصراف طائفة من النظار عن وظائف الاسلام وإعراضهم عن الدين جملة مقلدين في ذلك شرذمة يسيرة من ذوي العقول المنكوسة والآراء المعكوسة ممن هالهم سماع اسماء ضخمة كسقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطو، فتصنعوا الكفر لكي يتميزوا عن سواد الناس الغالب، ظناً منهم ان الكفر من أمارات الفطنة والعلم. وهم لو تدبروا الأمر قليلاً وفحصوا آراء الفلاسفة الذين تكلفوا التشبه بهم، لاتضح لهم مقدار جهلهم وشططهم وتبين لهم اتفاق كل مرموق من الأوائل والأواخر على التسليم بأصول الدين الكبرى وهي الإيمان بالله واليوم الآخر». وفي هذا السياق يقول الباحثون ان الغزالي كان يرى، بعد كل شيء، ان زعماء الفلاسفة كانوا متفقين مع الشرع على أمهات المسائل لكنهم مختلفون في الفروع «فهم براء مما ينسبه اليهم هؤلاء الجهلاء». أما «زعماء الفلاسفة» الذين يذكرهم الغزالي هنا فعلى رأسهم افلاطون وأرسطو، وأما «الجهلاء» فعلى رأسهم الفارابي وابن سينا. ومن الواضح ان الغزالي في «تهافت الفلاسفة» لم يسع الى هدم فلسفة الشيخين اليونانيين، بل سعى الى التشديد على جهل الشيخين المسلمين بهما. وأبو حامد، لا يلقي الكلام هنا على عواهنه، إذ انه لكي يتمكن من هدم خصميه المسلمين، كان لا بد له، كما يفيدنا هو نفسه في «المنقذ من الضلال»، من أن ينفق سنتين ونيفاً من عمره في تحصيل الفلسفة اليونانية. وقد كان من ثمار هذا التحصيل كتاب للغزالي، هو الأشهر من بين كتبه في الغرب، ولكن لأسباب يدخل فيها شيء من سوء التفاهم. لماذا؟ في كل بساطة، لأن الغزالي رأى انه لا يمكن هدم أفكار الفلاسفة الاسلاميين «المتهافتين»، وتبيان تناقضهم وعدم تفهمهم لفكر الأساتذة اليونانيين الكبار، إلا إذا عرض فلسفة هؤلاء عرضاً أميناً ودقيقاً... وهذا العرض هو الذي يشكل متن «مقاصد الفلاسفة»... وقد جاء المتن وافياً الى درجة انه يكاد يشكّل موسوعة حقيقية لدراسة الفكر اليوناني، بل تكاد تكون أوفى موسوعة عن هذا الفكر صدرت في اللغة العربية في ذلك العصر. غير ان الغزالي، الذي كان يعي تماماً أهمية مشروعه الفكري، مهّد لذلك المتن بمقدمة شديدة الأهمية عرض فيها مشروعه، وأكد انه انما يدرس الفلسفة اليونانية، لكي يعود في كتاب تالٍ له الى نسف نسقها كما وصل الى الفكر العربي. ولكن حين نشر «مقاصد الفلاسفة» مترجماً الى اللاتينية على يد دومينكوس غونديسالينوس، أواخر القرن الثاني عشر، لم ير المترجم اللاتيني ضرورة لإرفاقه بالمقدمة التي تبرره، فاشتبه الأمر، كما يقول الأب بويج على «القراء اللاتين، حتى بات الغزالي عندهم يعد في الأوساط اللاهوتية والفلسفية ركناً من أركان المدرسة الارسططاليسية العربية، وكثيراً ما يرد اسمه على هذا النحو الى جانب اسمي الفارابي وابن سينا تحديداً، في آثار كبار المدرسيين (السكولائيين) كروجر بيكون والقديس توما الاكويني وألبرتوس مانيوس (بطرس الأكبر)... والحال ان سوء الفهم تجاوز القراء اللاتين، ليصل الى ابن رشد نفسه، الذي، إذ قرأ «مقاصد الفلسفة» على ضوء قراءته ل «تهافت الفلاسفة» ورغبته في السجال معه، خلص الى تلك النتيجة التي بدأنا بها هذا الكلام. لم يشكك أحد من دارسي فكر الغزالي وحياته، في حقيقة ان أبا حامد انما ألّف «مقاصد الفلاسفة» قبل تأليفه «التهافت» مباشرة، ذلك انه يقول ذلك بكل وضوح في مقدمته. ومن هنا فثمة إجماع على انه كتبه حوالى العام 488 ه. (1095 م) وهو شاع كثيراً، وخصوصاً كما قلنا ككتاب يعرض بكثير من الحيادية، تفاصيل الفلسفة اليونانية. ويرى الباحث الاسباني الأب مانويل ألونسو ان «مقاصد الفلاسفة» كان له أثر كبير في فلاسفة العصور الوسطى الأوروبية ومفكريها، ويقدم ثبتاً بالمؤلفين الذين أشاروا اليه، وعدد المرات التي ورد فيها ذكره - وهذا الثبت يورده د. عبدالرحمن بدوي في كتابه «مؤلفات الغزالي»، وفيه أسماء نحو 45 مؤلفاً وباحثاً أوروبياً من العصور الوسطى، تحدثوا عن الكتاب، وعدد المرات التي تحدث عنه فيها كل منهم (147 مرة لألبرتوس مانيوس، مثلاً، و31 مرة للقديس توما الاكويني، و24 مرة لجان لوي دور دي باري، و12 مرة لبيدرو دي ابانو...). ويرى باحث معاصر (ميثم الجنابي في مؤلفه الضخم عن «الغزالي» والذي صدر في أربعة أجزاء عن دار المدى في دمشق قبل سنوات قليلة، ويمكن اعتباره أوفى دراسة تحليلية معمقة صدرت في العربية عن صاحب «مقاصد الفلاسفة» في العصور الحديثة)، يرى ان «انتقال الغزالي الى مواقع المعارضة الجديدة لتيار حكمة القدماء وتجليها الخاص في عالم الاسلام، قد استثار فيه، وإن بصورة عرضية، تأمل قضية العلم والعمل (...) إلا أن دراسته ل «علم الأوائل» قد تضمنت بحد ذاتها جوانب المقارنة والتحليل والجدل ووسعت فكرة العلوم، ولم يعد الجدل أسير المعضلات الكلامية حول صفة الله أو علوم الاسلام. غير ان هذه النتيجة تبقى، إن امكن القول، عرضية مقارنة بالإفراز الأكثر جوهرية في تطور الغزالي، أي الخروج من قاعدة المألوف والعادي الى رحابة الميدان الأوسع لصراع الأفكار، باعتبارها هويات ثقافية أيضاً. ففي «المقاصد» كما يستطرد الجنابي «تظهر للمرة الأولى محاولة تأمل ودراسة العلوم الفلسفية باعتبارها علوماً مستقلة (...) [حيث] يتبلور موقف [الغزالي] الفكري من قضية تحديد هوية العلم على أساس اقترابه أو ابتعاده من الحقيقية». ويرى الباحث هنا انه اذا كان «مقاصد الفلاسفة» يخلو من تحليل آراء الفلاسفة الأخلاقية، فإنه «مليء بحيادية الاستعراض الموضوعي للعلوم الطبيعية والماورائية»، ما يجعل الأولوية هنا ل «العرض الحيادي الموضوعي لآراء الفلاسفة». والحقيقة ان مثل هذه الأبعاد، يجعل لكتاب «مقاصد الفلاسفة» نوعاً من استقلال ذاتي، لم يتقصده الغزالي أصلاً، لكنه يبدو قادراً على تقديم أوفى عرض في عصره، بخاصة لفلسفة أفلاطون وأرسطو... بل العرض الأكثر موضوعية لفكر هذين المعلمين اليونانيين الكبيرين. والمرجح أن أبا حامد قد استمد لقبه الغزالي من ولادته في قرية تدعى غزالة من أعمال طوس في إقليم خراسان الفارسي (وإن كان آخرون يرون ان الاسم آت من مهنة أبيه الذي كان غزالاً). وهو ولد العام 450 ه. (1059) ليموت العام 505 ه (1111). وبدأ حياته يتيماً حيث كفله صوفي أثر فيه صغيراً. وهو حين شبّ عن الطوق توجه الى جرجان ليدرس فيها زمناً، ثم الى طوس فنيسابور حيث درس على الإمام الجويني. ولاحقاً، بعد موت هذا الأخير، اتجه الغزالي الى بغداد، حيث اختلط بأهل العلم في مجلس الوزير المتنور نظام الملك، فجعله هذا استاذاً في المدرسة النظامية. وهو خلال تلك الفترة وبتلك المرحلة القاسية التي دفعته الى الشك والتشرد، ليعود وقد استعاد إيمانه ووضع «المنقذ من الضلال»، مكرساً بقية سنواته للعلم والدراسة منتجاً بعض أهم الكتب الإسلامية في الكلام والإلهيات والتصوف... [email protected]