نعرف أن الدنيا مرحلة عبور، ونعرف أن آجالنا فيها محدودة، ونعرف أن الموت يأتي أحيانا فجأة، ونعرف أن الآخرة هي دار القرار، ونعرف أن الدنيا متاع قليل ومتاع الغرور، ونعرف أن الدنيا حقيرة، ونعرف أنها في الآخرة مثل أن يضع أحدنا اصبعه في اليم فلينظر بما يرجع، ونعرف أن نعيمها لايدوم وزعيمها لايخلد ونعرف أن أيامنا فيها وإن طالت معدودة، ونعرف ونعرف ونعرف الكثير والكثير لكن مع كل هذا الرصيد المعرفي عن هذه الدنيا إلا أننا نوليها جل اهتمامنا وجل تفكيرنا وجل نشاطنا وجل امكاناتنا ونحب فيها ونعادي فيها ونوالي فيها ونبغض فيها مع يقيننا بما نعرفه عنها. للإنسان أن يسأل نفسه هذه الأسئلة ويحاول الإجابة عليها، الإجابة على سر تعلقنا الكبير بالدنيا رغم كل السلبيات والإيحاءات بسرعة انقضائها وزوال العمر وذهاب الشباب وزوال الصحة وغيرها. إن النفس البشرية تتعلق بالمحسوس أكثر من تعلقها بعالم الغيب، ولهذا لوكانت الجنة مكانا في الأرض لايقصده إلا الطائعون المخلصون لرأيت من يعمل كل الأسباب المؤدية إلى دخولها كي يدخلها وبهذا تنتفي قاعدة الجزاء والحساب ويتساوى البشر في التحصيل، ولو كانت جهنم –أجارنا الله منها- ترى رأي العين ورأينا أهوالها وغسلينها وزقومها لارتعدت فرائصنا ولما تلذذنا بشيء من الدنيا، ومن هنا كان الإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان الستة التي لايكتمل إيمان مسلم إلا به. إن التوازن مابين الحياتين وشحذ الهمة في التقرب إلى الله لايتعارض مع عمارة الأرض بل بالعكس يعطي المسلم دافعا أكبر للعمل بغية الراحة في دار الخلود صحبة الأنبياء والصالحين والاستمتاع بنعيم لاينفد وقرة عين لاتزول. إن من استغرق في لذاذات الحياة وتمطى فيها وضرب أطناب رغبته في تربة ملذاتها قد ينسى أو يتناسى في هذا الخضم من المتع أنه سيموت وسيفنى وسيبعث وسيحاسب، فتجده يستغرق في جنته الدنيوية ويهمل البذر في موسم البذر فتمر أيامه وشهوره وسنينه وهو رافع عقيرته مستغرق في المتاع القليل الزائل. لابد من رفع درجة التحسس الإيماني للمسلم بتذكر الموت والبلى، وصقل النفس وتعويدها على الطاعات المقربة إلى الله، واستحضار زوال الدنيا، وترغيب النفس فيما عند الله وفيما أعده للمتقين وتحذيرها من مهاوي الردى وغلبة الهوى. إن شعيرة الصيام حرمان من لذة الأكل والشرب لكن المسلك عندما يصوم فهو يرجو ماعند الله ويحتسب جوعه وعطشه عند الله ، وهكذا الدنيا برمتها عندما يلزم المسلم غرزه ويبتعد عن مايغضب الله ويسارع في الخيرات ويدعو الله رغبا ورهبا فهو بخير المنازل فشمرأخي المسلم فماهي إلا سويعات وينقضي العمر وتطوى الصحف