مأمون فندي * نقلا عن "الشرق الأوسط" السعودية قطة، هكذا كان اسمها، بنت الجيران، هي واحدة من توأمين، وكانت في العاشرة من عمرها، جاءت إلى بيتنا كاشفة عن ساقها اليمنى التي بدت عليها علامات لسع النار، شكت من أن نار «الكانون» (موقد النار التقليدي) في بيتنا ظلت مشتعلة طوال الليل وأحرقتها. «وما دخلنا في ذلك، وما علاقة نار كانوننا بالحرق الذي في ساقك، وبيتكم بعيد عن بيتنا؟» قالت أختي. في قريتنا نؤمن، ومعنا الكثير من القرى المجاورة، بأن التوائم من الأطفال الذين نسميهم بالقطط أو البسس (جمع بسة) في اللهجة المحلية، تغادر أرواحهم أجسادهم في الليل أثناء النوم، وتخرج هذه الأرواح على هيئة قطط سوداء من دون ذيل تتنقل على حيطان البيوت الريفية، بحثا عما كان يشتهيه هؤلاء الأطفال في صحوهم، فيأكلون من أكل الجيران الذي شموا رائحته نهارا وخجلوا أن يقربوه أو لم يدعوا إليه. وعندما ترجع الروح من «السرحة» تعود فتدخل جسد الطفل التوأم ثانية ويأخذ بالتأرجج والتحشرج في حالة أشبه بطلوع الروح عند الموت. تقول نساء القرية إنهن لا يقربن القط الأسود في الليل، لا يضربنه ولا يغلقن عليه الأبواب، لأنه من الوارد جدا أن يكون هذا القط أو هذه القطة روح بنت أو ابن الجيران التوأم وهما في حالة «السرحة». سمعت بنفسي هذه القصص، وأحيانا ممن دخلوا التجربة نفسها، وكانوا يصفون كيف أنهم في نومهم سرحوا إلى بيت فلان في القرية وأكلوا من طعامه، وكيف أنهم وجدوا فلانا مع زوجته، وقلبوا أطباقا في المطبخ. يتحدثون عن دلائل مادية يقر الجيران بأنها حقيقية ودقيقة. ليس لدينا تفسير منطقي لذلك، ومع ذلك فهي مسألة لا نشك فيها أبدا رغم أنها تبدو من الخيال لغيرنا. وأعتقد أن جذور هذا الأمر مرتبطة بالإله «بستت» القطة السوداء المرسومة في المتاحف والمعابد والمقابر الفرعونية، فما نزال نقول للقطط «بس» ونسميها «بسه» وهذا على ما يبدو اختصار لبستت، إله الحظ والفرح. والبسس أو القطط كما يصورها خيالنا الجمعي قادرة على الحركة في الزمان، أي أن تكون موجودة في مكانين في اللحظة ذاتها، فيما يعرف في علم الباراسيكولوجي بال«بايولوكيشن». لست مختلفا عن «قطة» في علاقتي بالقرية التي ولدت وأعيش فيها رغم ربع قرن من التنقل بن واشنطنولندن، ما زالت روحي تسرح في القرية، آكل من أكل أهلها وأشتم رائحتهم، وبعض الساعات تلسعني نار عذاباتهم. كما أنني مثل أهلي هناك أومن بخرافاتنا لأن فيها هويتنا. فرغم ما يعتبر فقرا وتخلفا يلف قرى الصعيد، فإننا مجتمعات قديمة قدم المكان، وما زالت رؤيتنا للعالم بصورة شاملة متغلغلة في وجداننا، رغم الخروج من المكان. فصغائر الأشياء هي جزء من نظام أكبر، وهذا ما أريد أن أصل إليه هنا في حديثي عن بيتنا وعن عمرانه وعماره، وعلاقة ذلك بهويتي الشخصية ورؤيتي لنفسي والعالم من حولي، سواء كان الأمر يتعلق بمصر أو العالم الأكبر. الإنسان منا هو فرد في عائلة، وجزء من مجتمع القرية الصغير، ثم مجتمع المديرية أو المحافظة، وجزء من مصر ومن العالم العربي، ومن العالم. يفقد الإنسان هويته ويضيع في دوامات العولمة إن لم يكن مرتبطا بالدوائر الأصغر التي نشأ منها. وضمن هذه الرؤية، لم تكن رحلتي إلى واشنطن أو إلى لندن هي نقلة هجرة، بل كانت أشبه بحالة القطط، كنت موجودا هناك وموجودا هنا، ربما كل الوقت، لا معظمه فقط. ومن هنا ومن تلك المساحة بين الوجودين أكتب عن الزمان والمكان والعمران. الصعيد، والقرية تحديدا بالنسبة لي، أشبه بالمرآة العاكسة التي تجدها أمام السائق في السيارة، لا تركز العين عليها طوال الوقت حتى يحدث اصطدام بأقرب حاجز. هكذا أنظر إلى الصعيد من آن لآخر كي أقاوم وأتجنب الصدمات، أنظر إلى الخلف لكي أتحرك إلى الأمام، على عكس الأصوليين الإسلاميين الذين يركزون أنظارهم على الماضي، مرآتهم العاكسة تريهم الماضي فقط، فتدخل مراكبهم في أول حائط أمامهم. الصعيد مكانا وزمانا ليس حالة رومانسية بالنسبة لي بقدر ما هو ذلك المثبت للمركب لحظة الرسو في الماء الذي نسميه هلبا، الذي يمكن قارب الحياة عندي من البقاء عائما فوق الماء من دون أن يجرفه التيار. ذلك الإحساس القوي بمكاني في العالم هو الذي يمنحني مناعة ضد الانبهار بالغرب، وكذلك يمنحني القدرة على نقد عالمي من دون الوقوع في غرامه أو إلقائه كاملا خلف ظهري. أنظر إلى الصعيد من تلك المسافة الجمالية، مسافة الوعي، التي نقف عندها في لحظات الاستمتاع بواحدة من الرسومات الانطباعية أو «الإمبرشنيست بينتنكس». مدخلي لفهم هويتي وهوية الصعيد الذي أنتمي إليه هو المعمار وتخطيط المدن، فمعمارنا حالة وكينونة. بيوتنا مفتوحة معدة لاستقبال الشمس في يوم الشتاء، وضوء القمر في ليل الصيف، تسمع وأنت في البيت أصوات البهائم والطيور وهي في الغدو عند أول الصباح وكذلك عند الرواح في المساء، أصوات الحمير والبقر والجاموس وصهيل الخيول وثغاء الجمال، كلها أصوات أصبحت جزءا من خلفيات الوجود وموسيقاه التصويرية. صوت الماء في الخارج وحركة الجمال المحملة بالعيدان، ما إن تسمع أنينها حتى تعرف لماذا أغانينا في الجنوب حزينة. معمارنا جزء من طبيعتنا، فيه أفكارنا وأسرارنا. معمار عاطفي جدا. لست معماريا لا بالدراسة ولا بالممارسة، ومع ذلك فأنا مسكون بالعمران. عمران الزمان والمكان وعلاقتهما بعمار النفوس وعمران الجسد، فأجسادنا مثل بيوتنا بناء تسكن الروح فيه، وكما لنا من أسمائنا نصيب، لنا أيضا من أجسادنا بيوت وعمارة تشكل حركة أرواحنا. نحس بالاختناق لو كان البيت ضيقا، وكذلك الأرواح تقلق أحيانا لأن الجسد يثقل ويضيق وما له بمجاراتها. ضاق خلقي، هكذا نقول، ونقول في الصعيد الخلق عن الجسد وعن الملابس أيضا، فخلقاتي هي هدومي (ملابسي) وهي خلجاتي ونفسي وهي جسدي كله أيضا. يضيق الجسد فتضرب الروح فيه كما يضرب الجنين بطن أمه في الشهور الأربعة الأخيرة. لأن الروح أكبر من الجسد، يضيق العمران على الروح فنختنق في أجسادنا. أحيانا تسبح أرواحنا بحرية في عمار جسماني مثالي، وظني أن الأولياء وأصحاب الأرواح العالية هم الذين تسبح أرواحهم حرة هكذا في أجسادهم فتجعلهم أخف من الريشة ساعة الصحو وأثقل من جبال الأقصر ساعة الرقاد، حتى إن جاءت ساعة الرقاد النهائي أصبحوا رواسي في الأرض. رحلتي من قريتي في أعالي الصعيد إلى واشنطن، لم تكن حركة في المكان كما تبدو في ظاهرها، وإنما كانت حركة في الزمان، ولهذا تبيان يأتي لاحقا. حركة مترددة، مرة للأمام ومرة للخلف، كما حركة جمال الصعيد المحملة بالقمح في شهر برمودة، الشهر الزراعي في التاريخ القبطي الذي يعتمده الفلاحون مقياسا للزمان والنماء. «برمودة ما تخلي في الأرض ولا عودة»، هكذا يقول أبي. تخيلت في الصغر أن روحي روح جمل، فالجمال عندنا مركزية في دلالات حياتنا، حين تفقد المرأة زوجها يغني أول مطلع لها في قصيدة العديد «يا جملي». والجمل جمال، فنقول «يا بت جملك هبشني»، وتفسيرها «يا بنت جمالك أخذني وشدني»، كما نقول عن البنت الجميلة «بكرة»، والبكرة بعاميتنا هي الناقة الصغيرة الرشيقة. ما كنت أنا بالجمال المعروف، لكن أخي الذي أصبح طبيبا كان يعمل بالفعل جمالا أثناء دراسته، وهو رمز الجمال كما ترسمه مخيلة العرب، فارع الطول تراه فوق الجمل كأنهما امتداد لبعضهما البعض. الرجل والجمل فوق بعضهما تكوين عمراني متكامل، سبحان من صور.