بهدوء أقرب إلى البطء، يتهادى عمان (الإنسان والمكان) ناحية الحداثة، فكل ما يرتطم بالحواس من علامات (الهوية/الذات) المعاد إنتاجها بمواصفات مدنية يشير إلى رجّة اجتماعية مستترة، يُراد لتموجاتها العاتية ألاّ تُفقد الإنسان العماني توازنه، كما يتمظهر ذلك العناد في متوالية من الإشارات القابلة للتخرّص السيميائي، حيث تبدو تلك الدلالات فاقعة في إشهار (المصّر) بما هو مقرّر رسمي وهوى شعبي أيضاً، وفي المحاولات المعلنة لإستعادة رمزية (المها) Arabian Oryxo وتوطين موحياتها. وكذلك في الإبقاء على حميمية المصافحة، أو التحية التقليدية المؤداة بحك أرنبة الأنف، حتى عند النساء، التي تدل -برأي الشاعر هيويل ديفيز على (أختيّة الإنسان الكامنة). وعلى الأرض يبدو التباهي بصمود الحصون الشامخة فوق الجبال مقصوداً، بما تعنيه تلك الماكيتات الصخرية من رمزية مناطقية وإبائية، كما يتأكد ذلك المنحى في الإحتفاء الواضح بالقنوات الفَلَجِيّة، المتدفقة من أسقف الماء الخفية التي حفرها جيش من الجن التابع للنبي سليمان (ع) حسب الأسطورة المتداولة، إذ ما زالت تلك الشقوق الطبيعية تتمدّد كشرايين لري الأرض، واستدعاء عبقرية الأسلاف وشاعريتهم، بالإضافة إلى منظومة متنوعة وطويلة من الإيماءات المادية واللامادية، الماثلة كشواهد تاريخية، والمحيلة إلى أصالة منغرسة بعمق في وجدان الناس، ومختزنة لجينات المكان، التي تتدفق لتصب في مجرى (النص). وإذ يتعذّر تأمل شساعة المكان العماني، وتنوّع مشهدياته البصرية، يبقى (النص) مطّلاً معرفياً وجمالياً، للتعرّف على تضاريس روح الإنسان، وتاريخ المكان، بما هو الخزان الحسّي والفكري للإنسان العماني، وبما هو المروية الكبرى التي يتخيّل بموجبها العمانيون شكل وطنهم الآخذ في التشكُّل على إيقاع مهبات العولمة ومباغتاتها. حيث يتناوبون على سرده شعرياً وبصرياً، لرسم صورة تليق به في الواقع والمتخيّل، كما يتأمله سماء عيسى مثلاً، الذي لا يدين له المشهد الثقافي العماني بفرط القصيدة الغنائية وحسب، بل بنثر بذور الحساسية الجمالية الجديدة، إذ لا يرى إمكانية استوائه إلا على إيقاع الخراب، أو ما يضغطه بشكل مكثّف في مجموعته الشعرية المرتلة تحت لافتة مربكة (نذير بفجيعة ما). حيث ينصّص فكرة تقويض وبناء الوطن في عبارة استبشارية دالّة (علّ وطناً يستيقظ من أنقاض تراكمنا). وكأنه يتماهى بشكل ضدي مع مقولة المؤرخ الانجليزي تشارلز راثبون لو، بكون عمان المعادل الرمزي والواقعي للخراب، وأن هذا المكان الذي صعدّه المخيال الغربي جمالياته أحد آخر الأماكن التي قد يود الإنسان أن يسكنها. سيف الرحبي وبعدسة مغسولة بالدمع والحنين يؤفلم المخرج حاتم الطائي الوجع العماني في شريطه السينمائي (الوردة الأخيرة) حيث يهديه إلى غبطة بداياته (إلى المكان الأول الذي يشكل جرحاً أبدياً في جسدي) بعد أن يقف بكاميراته على ما تبقى من عمان التي عاشها في الواقع وترسّبت في ذاكرته، ليشكر الأطلال التي تم إدراجها والتعامل معها على (أنها كائن حي، فاعل، ومؤثر، وذو هوية) من منظور عبدالله حبيب، فهي بموجب ذلك التصعيد البصري (لا تحضر باعتبارها مواقع للسيرة التراجيدية للمكان، والتي تحاول النصوص الشعرية المصاحبة استحضارها وإضاءتها، وقراءتها في فلاش باك صوتي وحسب، بل تجيء الأطلال باعتبارها الحدث/المكان/الزمان/ الشخصية في وحدة لا ينفصم لها عرى). إنها السيرة المكانية للعماني التي يغنيها إبراهيم الحجري بعبث لغوي في مجموعته الشعرية (معمار الماء). حيث يشبّه حراكه الأزلي بقفزة (الزافن) بين ما يتشكّل من (التعاريج الصغيرة...الكثيب على الكثيب...في بديع تلابيب أعجاز الرمل) وعلى إيقاع (الموسيقى الصاعدة من جريان المياه العذبة في الفوالق...والتشققات تحت قشرة الأرض). وهذا هو مكمن ثراء الفضاء الإيكولوجي، الذي تترنح فيه فاطمة الشيدي في مجموعتها الشعرية (مراود الحلكة) حيث تكتب بخطوات أنثوية حذرة سيرة المكان الآسر (ينسِبُني البحرُ إليه...ابنته...زوجته...أو ابنة خالته الصحراء...التي عَشِقَتْه من زمن الخلق...كي تقاوم مدَ الحرقة...وتغسل شعر الرمل عند ضفافه بقسوة جلاد). وربما لهذا السبب انتعل حسن المطروشي نعله المخشخش فوق أديم الهبوب ووقف (على السفح إيّاه) ليصدح من ممرات مجموعته الشعرية بنبرة رسولية (ألَقِّن فوج خرافٍ وصايا النظام الجديد...ألَقِّمُ أفراخ جارتنا ببناني بذور الحداثة...كيما تثور على وضعها). زهران القاسمي أما محمد الحارثي، فلا يكتفى بالكلام الشاعري الذي قاله في (عين وجناح) بل يتحول إلى دليل سياحي، ككل العمانيين الفارطين في الود والطيبة، ليجرّع مُرافقه حلاوة المكان، وسحره الآسر. ولا يتنازل إلا باقتياده إلى (رمال وهيبة) الخلابة، التي تغنى الشعراء بكثبانها الذهبية، وصمتها المهيب، حيث المنتجع الصحراوي الفاتن لأخيه عبدالله، الذي يجيد متحفّة المكوّن العماني، وجوهرة ما أطلق عليه الرحالة اسم (المخلوقة الخرافية). وبعد أن يغريه بتأمل غروب الشمس من مرتفع حجري في (واحة نهار) التي يشيد في زاوية منها بيته المؤسس على جمالية مبدأ النص اللامكتمل، يجول به حول أطلال (المنزفة) في (إبرا) ويطوف به في بلدة (الحوية) ثم إلى حصن (المنترب) التاريخي الشهير. وفي الطريق من مسقط إلى بلدته (المضيرب) يبطء السير عند عبور (وادي العق) ليستدر الذكريات المقدودة من الحنين ووعورة الدرب. ولا ينسى المرور ب(سرور) بلدة سيف الرحبي، التي رسم لها وجهاً منثوراً، مبعثراً بين عادية اليومي والبشري، أشبه ببورتريه لمكان مغَادر. بعين عمانية عارفة بالمكان، تتطابق أو تتقاطع ربما مع ما فهرّسه هلال الحجري، من قولات لشعراء ورواة ورحالة في كتابه (غواية المجهول-عمان في الأدب الانجليزي) يتجادل مع كل ما خلّفه مخيال أولئك من صور نمطية عن عمان، فأثناء تلك الجولة التي يتعمّدها كترجمة أرضيه لما نصّصه في كتابه، يعدّد مآثر عمان الأرضية والتاريخية بشكل أفقي في مرايا (هرمز، ومسقط، ومسندم، وقلهات، وصحار، ونزوى، فنجا، الجبل الأخضر) إلى أن يسقط عمودياً في أعمق نقطة أسطورية حيث (مجان). لكأنه يثأر بتلك التداعيات على ما يبدو لجينات المكان وذاكرته، ويعيد رسم ملامح الوطن كما عاشه، وكما يتأمل راهنه، والشكل الذي ينبغي أن يكونه، حيث يغوي ضيفه بغرس قدميه في السوق الشعبية، والتخاطب المباشر مع البشر الذين يضيئون المكان بأرواحهم، وتذوّق سمك القرش الصغير المملّح والمجفّف (العْوَالْ). وبما يشبه الانتباهة من حلم ناعم، يحدّثه عن لذة (بن سولع) التي تلذع اللسان وتلسع الذاكرة، ذلك الكائن الخرافي الشهي المشهور عند قبيلة (الحراسيس) قبل أن ينقرض. فاطمة الشيدي الاسم ذاته (بن سولع) يقتنصه علي المعمري، ليعلنه عنواناً لروايته، واسماً غرضياً لبطله التائه. فعمان نص واحد يتقاسمه العمانيون، أو يتناهبون أطرافه وتداعياته، كما يتضح من جاذبية هذا الاسم المكتنز بالدلالات، المستدعى كمعادل للإنسان العماني، الذي يكاد أن ينقرض هو الآخر ويتأرشف في النسيان، حيث يستدعي من مقر إقامته ودراسته في بريطانيا متوالية من الصور المحزنة عن ماضي الإنسان العماني في مرحلة ما قبل النفط (أدهشتني صوراً سكنت مخيلتي عن وضع العماني في غربته، والمهن التي يمتهنها من تبليط الشوارع في المنامة، إلى خادم وصبي في بيت عائلة كويتية، إلى فلاح ومزارع في نخيل الحسا والقطيف، أو عامل بضائع في رأس تنورة، أو سائق سيارة للشيخة الفلانية في الدوحة، أو بواب وحارس سوق ليلي مغلق في ديرة). ولأن (بن سولع) يدرس جوانب من التاريخ السياسي لعمان، كما يعيشه بكل تفاصيله بشكل يومي، ينفصم على حافة ثلاث نساء، يمثلن قوى رمزية وواقعية ضاغطة، حيث يستسلم لبروين الإيرانية، ويندفع باتجاه كارن الإنجليزية، قبل أن ينجرف باتجاه ميثاء العمانية، ذات العنق الخمري النحيف، وهو تقليد عند العماني الذي يتغنى على الدوام بالجمالية الإستثنائية للمرأة العمانية -العاطفية والجسدية- بما هي المآل والمستقر، حيث يفصح بمنتهى الوضوح عن هواجسه وقلقه على مصير وطنه وما يمكن أن ينتهي إليه كذات باحثة عن يقين المواطنة (وأنا في شقتي الصغيرة، يا عيني، وجدت أن عودة بن سولع إلى محميته مستحيلة، خصوصاً بعدما عرف بنبوءة المستقبل، للأسف الشديد، أن هناك آفة سوف يجلبها الزمن المقبل، بأنني سوف أنقرض من وطني، كما انقرض بن سولع من محمياته الطبيعية بالربع الخالي، ووجدت أنه من المجدي السفر إلى الوطن كي يتسنى لي اتخاذ القرار الصعب جداً في حياتي، ألا وهو قرار الهجرة أو عدم الرجوع للوطن). لا انفصال إذاً بين الذات العمانية وموضوعها. فكما يحدث في النص، يتكلم الواقع عن أساتذة عادوا من الخارج، واستقروا في مكاتبهم ومواقعهم المفصلّة حسب قاماتهم وشخصياتهم الإعتبارية المستحدثة. مقابل زمرة من الصعاليك الذين ما زالوا يبدون بعض التململ حول الشكل الذي صاره الوطن، فللمكاتب الفارهة خطابها المستأنس، وللمقاهي صوتها الساخط. وفي الهامش النحيل فصيل ممن لم يشتركوا في حفلة الوطن التنكرية، وممن لم يتعلموا بعد سلوكيات القطعان. والأهم أن كل تلك المفارقات والاختلافات الصريحة صارت تترسب في مصب (النص)، وتحفر مجراه الجمالي والمعرفي. محمد الحارثي هذا هو بالتحديد ما يفسر التهاب خاصرة النص العماني بالحنين، وهي نتيجة طبيعية لاحتقان الذات العمانية بالأسئلة الحائرة، التي تستبطن إشارات متراكمة تنم عن الدراية وعدم الرضا في آن، فبطل رواية (الوخز) لحسين العبري يبدو متهماً بأجمل تهمة يمكن أن توجه لكائن، وهي النميمة التاريخية إزاء وطنه، حيث يسأله المحقق باستفزاز (وهذه الحلقات، ألم تكونوا تتكلمون عن التاريخ العماني) فيجيبه بمنتهى الحب والتلقائية (بالطبع نتكلم فيها عن التاريخ. حسناً، أنا لا أذكر بالضبط لكي أكون صادقاً معك، لكنني أظن أننا تكلمنا عن هذا؛ فإذا كنا قد تكلمنا عن مصر، فلماذا لا نتكلم عن وطننا وتاريخه؟). هذا المشهد القائم على المفارقة لا يشكل سوى لقطة من غرائبية عشق العماني لوطنه، المجرّم دائماً بمحاولة تأثيثه بالديمقراطية والجمال، حيث ينتفض المحقق مرة أخرى ليسأل الكائن المذعور، الموخوز بحب وطنه (هل تظن أن القانون العماني جيد؟) فيجيبه بمسكنةٍ لا تخلو من التهكم (وكيف لي أن أعرف؟ أعني أن هذا الأمر يحتاج إلى عقلية قانونية، وأنا غير عارف بهذا الأمر. ومع هذا فإنه من خلال ما أشاهده فإن توجه الدولة هو باتجاه إحلال القانون وهذا بالضبط ما يجعلني أظن أن الدولة تسير باتجاه جيد، فالقانون سيكون فوق الجميع؟ لكن هل سيكون بالفعل فوق الجميع؟). ثمة طرق دائم في النص العماني (الشعري والسردي والبصري) وبشكل عمودي وأفقي لمفهمة معنى الوطن، ففي روايته (تبكي الأرض...يضحك زحل) يعادل عبدالعزيز الفارسي وطنه بقرية مكتظة بالمتناقضات، ليكشف عن (الذات/الشخصية/ الحالة/الهوية العمانية). حيث تتردد عبارات تنم عن التأفُّف من المكان على لسان المحيان بن خلف (لا وجود لأي حقيقة على تراب هذه القرية). كما تغري عايدة خديم السيل بالهرب معها من ذلك المكان الطارد (لاأريد البقاء يوماً واحداً في هذه القرية سأرحل عنها برفقتك ... بلاد الله واسعة. لماذا تتخيل أنه لا توجد حياة إلا في هذه القرية). وهذا هو الهاجس الذي يسيطر على ولد السليمي أيضاً، الذي نعي حال القرية/الوطن بعبارة ذات دلالة (سبحانك اللهم وهبت هذه القرية خير ما في الطبيعة وحرمتها خيار الناس). أما الشاعر الزحلي فتتشابك في داخله المشاعر إزاء القرية التي يتغنى بها ويلعنها في وابل من الجمل الشاعرية، عندما يتأمل جمالها وتضاريسها ( الفجر هو اسطورة هذه القرية). ولا يلبث أن يتوعدها مهدداً (رويدك يا قرية العجائب. يا بنت جهنم). ثم يصعّدها إلى مستوى الوطن ليفصح في مفصل عباراتي عن ذلك التطابق بقوله (وحيداً كنت يا وطني..وأنت معي، تسافر فيّ .. تسكنني). إلى أن يكفّنه في عبارات رثائية (آه يا ذاكرتي العزيزة، يا وطني المزروع عينين داخل الروح. يا أجمل القصائد). وكأنه بذلك التداعي المربك يؤكد على التنوّع بمعناه الصراعي، المنتج بالضرورة لشكل آخر للوطن، كما عبّر عن تلك الدراما الإنسانية المحيلة إلى مفاعيل السلطة كما تمثلت في الأذان المتواطأ على أدائه بمؤذنين أو صوتين: عبيد الديك وجمعان، بما يشكلانه من امتداد لصراع بين حداثة خالد بخيت، وقدامة الإمام راشد. وبما يحيلان إليه من تعدّدية لافتة يمكن اختصارها على أرض الواقع في (مسجد القبلتين) في المنزفة، الذي يشير بالفعل إلى وجهتين مقدستين. العماني لا تغريه أهواء الطفرات، على ما يبدو. أو ربما لا يمتلك مواهبها حتى هذه اللحظة. وهذا ما يفسر طبيعة نصه الآخذ في التبرعم بهدوء أقرب إلى البطء، لكأنه بذلك الإبطاء الكتابي يحايث تؤدة استواء الوطن. وبموجب تلك السكونية الصاخبة يمكن الوقوف على سر ارتباك جانب عريض منه، أو خضوعه الواضح للمباشرة والوعظية والمنْتَجة، فهو نص يعيش خوفه وقلقه وعوزه الفني أيضاً. ويبدو أنه يعاني كثيراً لتشكيل صورة منطقية لما يحسه ويفكر فيه العماني، فالاحتفاء الصريح بالمسميات التاريخية للأمكنة يمثل حالة من العناد ضد مكر الأسماء المناطقية المستحدثة. كذلك يبدو أن اكتظاظه بقاموس من مفردات حياة العماني مثل (البُجَّرة، الخضرنج، عزيب، الشوارنة، البُسْر، الشاروخ، التّول، الدُّعون، الغاف، اليَتوع، اللنجي، الهاوندة، الجحلة، السبلة) دلالة صريحة على الانجراف نحو ما يُعرف ب(البيتية الثقافية) إلا أن ترصيع النص بتلك الاستحضارات يمثل انتفاضة نوستالوجية للاستمساك بالهوية بل تصعيدها. بالمقابل ينولد نص جديد، يكتبه فصيل من الحائرين، الممسوسين برغوة الحداثة، المشدودين في الآن نفسه إلى ألق المكان العماني. هؤلاء الذين يتأملون الوطن بعينين متعاكستين، ويسيرون في (النص/الحياة) بقدمين، واحدة هنا والأخرى هناك، كما يبدو ذلك طافحاً عند زهران القاسمي، الذي يكتب مجموعته (أمسكنا الوعل من قرونه) بحذاء محقون بنزوات الترحال والإنسلاخ عما يختزنه الماضي من رومانسية، أو هذا هو ديالكتيك الحنين الذي يعتمده عندما يستعير الكلمة (كما تستعير الشاوية الصابون لتغسل حلمها). تلك الفاتنة الأصيلة -جسداً ومعنى- المنغرسة بعمق في مجرى الروح والأمكنة (التي كلما انحنت...لتلتقط خصلة ريح تائهة...تساقط نهداها بين الحصى أو على سيل جارف). فيما يلوّح لها هذا الهارب من مكانه المنقذف في مهباته (حالماً بأمكنة أكثر تحرراً...تغذت على الآيس كريم والبيتزا والمشروبات الغازية) صاكاً أذنيه عن نقرات طبول (الرحماني وتغاريد البوش) مستأنساً أو (حالماً بموسيقى الراي والراب). العماني لايكتب نصه بحياد، وفي الآن نفسه لا ينحاز لنسق مكاني دون آخر، الحديث منه والقديم. فهو نص أشبه ما يكون بالدليل إلى الإنسان والمكان، إذ لا يتنكّر لرومانسية لحظة ظفار، ولا يدير ظهره لما يوحي به بخورها ولبانها. نص عنيد، قد يغفر ولكنه لا يريد أن ينسى جروح (توام). نص منفصم، يكابد لإفهام الآخرين المعنى الغامض لاستواء (نزوى) عاصمة للإمامة ومضخة للسحر والشعوذة. نص لم ينعتق عن أغلال ماضيه وجاذبية أساطيره، فما يحاوله محمود الرحبي في (درب المسحورة-أوراق من سيرة فتاة عمانيّة) ليس سوى حالة من (التسريد) العصري لقصيدة العلامة نور الدين السالمي عن اعجوبة امرأة سكنت الوجدان الجمعي بخرافة خروجها من قبرها. إنه نص يحاول أن يعتنق الجمال ويشيعه ليثبت أن سحر طبيعة المكان العماني أبلغ مما يشاع عن السحر البهلاني، وعن (المَغايبة) الذين يحتلون الوعي العماني، ويضغطون بشراسة على المُمكن الفني للنص، وصيرورة الكيان المجتمعي. وكما يشتكي المكان العماني من العزلة الاختيارية، والقطيعة المفروضة عليه، يعاني النص العماني من اليتم، إذ لا يزوره القارئ إلا بشكل مناسباتي عابر. ولا يطأ أرضه الناقد. ويبدو أن لا أحد يريد أن ينصت للنبرة الحزينة التي تستبطنه، التي تحيل إلى إنسان حزين لا يمل من (الغطس في الحنين) كما يمارس تلك الغوصات -الواعية واللاواعية- سليمان المعمري، في مجموعته (الأشياء أقرب مما تبدو عليه في المرآة) حيث يضبط ساعته البيولوجية على الوجع اليومي، ليكتب أعراض ذاته ووطنه المزمنة، مستجدياً وصفة النص المداوي، ليؤدي فروض سرده (أتوق إلى لغة لا تشبه اللغة..إلى حروف لم تُستهلك بعدُ تسمعني صوت تكسر الأشياء الثمينة داخلي..في هذه اللحظة الذاهبة في الحزن أمسك بالقلم الذي يتثاءب في يدي كعصفور مقصوص الجناحين، أحاول أن أخط به شيئاً يخرجني من حالة الإحباط.....).