- الماضي لا يمحوه إلا الموتى. هكذا فكر مبخوت وهو يستقل سيارة الأجرة لتوصله هو وزوجته إلى موقف الجنوب. قذف بجسده بجوار السائق الذي استراب من منظره الملوث والجموع الغاضبة التي تبعته بالصرخات واللعن والشتائم البذيئة. – سيكون الأجر مضاعفاً فما قذف من بيض وخضراوات بحاجة إلى عشرة مغسلين. لم يتنبه لمقولة السائق فما يمور في داخله من خجل بحاجة إلى أرض تتشقق وتبتلعه. البصاق ومخاط البيض عالقان بثوبه الممزق، وكدمة صغيرة أسفل عينه اليسرى، أخذ يفركها منكساً رأسه متمنياً لو أن زوجته تقول شيئاً يزيل وجعه الداخلي. اختار مدينة جدة هرباً ورغبة في هضمه وتحويله إلى كائن آخر له تاريخ المدينة حيث الذوبان والبقاء كنقطة بعيدة من كل شيء، محورها ذاتها وعالمها يتسع ويضيق وفق اندياح الذات خالصة من كل شوائب الآخرين، فأينما وجدت تبادل المنافع تكون الحياة باهظة التكاليف، هكذا فكر... حياة سابقة هرب منها، وصرف سنوات من حياته مغترباً عن قريته التي أبقت اسمه وأحداثا اقترفها على أرضها لم تمحُ كونه لا يزال يدب على الأرض... – لو كنت نسياً منسيّاً. هي أمنية أخذ يردّدها همساً ويعلم أن ما يحدث يتحوّل إلى واقع مجسّد يصدر الناس أحكامهم وفق أركان ذلك الواقع، أما ما خلف الحدث فهو خارج الاهتمام ولا يعتد به. قذف بهما سائق الأجرة في موقف الجنوب كما يتخلى سارق عن نيته، وقفا تائهين داخل فوضى المسافرين، كان منظره مزرياً فبحث عن دورة مياه فلم يجد إلا دورة المسجد، انتزع ثوباً من حقيبتهما الوحيدة، وأوصى زوجته بالانتظار، لم يحتج إلى وقت طويل، أصلح هندامه بما يبعد نظرات المسافرين عن منظره المزري الذي دخل به إلى الموقف لكنه وجد عين زوجته ترميه شزراً: – أيّ فضيحة حملتها لنفسك ولقبيلتك؟ – أي فضيحة تقصدين؟ ما قيل عني؟ صمتها جمّد بقية الكلمات، فأشاح بوجهه صوب الأجساد المتنافرة داخل الموقف، وأخذ يبحث عن سيارة تنطلق إلى خارج هذه المدينة بأي صورة كانت... اختار أول حافلة متجهة إلى جازان، ونقد السائق أجرته وأجرة زوجته، وأخذ ينتظر اكتمال عدد المسافرين بشرود مشتت متقطع، جاء صوتها متناشجاً: – هل شاهدوا الطفلة معك؟ – أي طفلة؟ – فتون! – لا، لا، أبقيتها بالداخل؟ ردّت مستهزئة: – وهل ستنتظرك حتى تعود لها؟ صمت تماماً. خليط من البشر يهيمون داخل الموقف بوجوه تبحث عن مواقع وكائنات غائبة تسكن مخيلاتهم، عشرات الحكايات سيذهبون إليها، وعشرات الحكايات سيحتفظون بها وعشرات الحكايات سيتخلصون منها عند مغادرة سياراتهم لهذه المدينة. الحكايات توصل بعضها بعضاً، تبدو سحباً ممزقة إلا أن فضاءً ما يجمعها يحولها إلى سائل واحد وينزلها حدثاً جديداً. – «الرحيل» هي المفردة الحقيقية التي نطبقها في حياتنا. أخذ يردّد جملته المجلوبة من بين ركام الأيام التي عبرها متذكراً وقفته أمام أبيه ومعترفاً له بما فعله فوجد لسان أبيه يحرضه على الهرب: – وهل أمضي عمري مرتحلاً؟ – ليس هناك كائن إلا هو هارب، كلنا هارب من شيء ما يا ابني. أذان العصر يتمدّد على حنجرة المؤذن بتقطيع رتيب، ومساعد سائق الحافلة يصيح بالمسافرين من أجل إكمال العدد المرتحل، وانشغل رجل المرور مسهلاً تفويج خروج السيارات المنتهية الإجراءات، وضجيج المكان يخلق صوتاً جماعياً يبحث عن معنى. قسمت الحافلة إلى موقعين، كان آخرها للعائلات، كان جسده ملتصقاً بزوجته مؤنسة وحين استشعر نفورها من ملامسة جسده لها، سحب نفسه إلى طرف المقعد. وأخذ يتابع حركة المسافرين المنشغلين بنقل حقائبهم والتخفف ممّا يحملونه إلى داخل خزانة الحافلات أو على أسطحها، وقد تدرّج الباعة بين الجموع منادين على بضائعهم التي تنوّعت بين المياه والعصائر والمأكولات الخفيفة وبعض الحلويات الشعبية المشبعة بالسكريات. وجد أنه يتطرّف كثيراً في مقعده، مستشعراً أنها لا ترغب في شم رائحته أيضاً، فألقى عليها سؤاله محاولاً إيصال همسه من بعد: – هل تودين أن أجلب لك شيئاً؟ – ما تجلبه لنفسك يكفينا. ترك مكانه، وترجّل من أجل شراء لبن وقطع من الكيك المغلف محلياً، وقنينتين من الماء وكوزين من حبات الذرة وقبل أن يصعد للحافلة أحس بحاجة ماسة إلى أقراص دواء تقلل من فوران حالة صداع مفاجئة، أعاد حالة الصداع التي اعترته إلى جملة زوجته الأخيرة التي بقيت تنخر قحف جمجمته بلا هوادة وفي كل حين يهذي: – ما الذي جلبته لنفسي؟ *** بين جبلي دخان والدود استكانت قريته مانحة ظهرها لليمن وحاضنة قرى تهامة بما رحبت، ولكي تعصم نفسها من الضياع أمسكت بطرف جبل الدخان منتظرة الوصول لغايتها. أهلها يسيحون في الأرض بلا حساسية تنفج في قلوبهم للكلمات التي يسمعونها من رجال الحدود القادمين من عمق الصحراء... قرى تناثرت على الحدود اليمنية السعودية تحلم باهتزاز أعواد القصب، وجريان الأودية، ورؤية الزماميح، والترنّم بأغنيات الحصاد، والتمايل طرباً على رنة وتر في المقيل، قرية تصرف أيامها في المتاكئ وتطير أحلامها في سحب التبغ المنبعث من مجالسهم. هناك على سفح جبل الدخان قطعت أمه حبله السري، وقبل أن يُلف ويوضع في حضنها، كانت صرخة توأمه تبحث عن موقع لها في نفس الحضن. جاء التوأمان بعد جفاف الرحم التي حملتهما سنين طويلة، تعدّدت فيها النذور وطلب العون من الأولياء والوقوف في جبل الرحمة والاستشفاء بماء زمزم والاستعانة بالحروز والتنقيب عن سحر مدفون في بئر مهجور. مجيء التوأمين فتح نافذة من فرح في قلب أبيهما الذي أقسم أن بندقيته أسقطت السحر المحمول في جناح طائر كان يمكث على مقربة من منزله منذ عشر سنوات، ومع انفراج زوجته عن توأم نحر بقرتين صحيحتين (إضافة إلى العقيقة) وأولم لأبناء القرية وعابري السبيل، واستغل تجمع أهالي القرية ليروي لهم كيف عرف هيئة الطائر المستأمن على السحر المعقود له ولزوجته، ووصفه بأنه طائر ليس له شبيه سكن شجرة السدر القريبة يثب منها ويظل ساكناً فوق غرفة مطلة بصحن الدار واصفاً جناحيه بالمعلقتين على الدوم وأن له مكوثاً ثقيلاً ينهيه أي ذكر لإسم من أسماء الله الحسنى وكلما ارتفع صوت مؤذن القرية حلق الطائر بعيداً نافراً بصوت منكر. ولأول مرة يتركب على ركبتيه منتظراً نتيجة الاقتراع على اسم التوأمين، ولثلاثة أيام تُلقى القرعة في الهواء وتهبط فلا يرضى بنتيجتها. تضاحكت زوجته وهي تذكره برفضه وعدم استجابته تلبية طلب وحمتها حين تاقت نفسها ل»حفص» تخضب به يديها، فقفز عالياً: – ما لم أجلبه لك جلبه الله، فليكن اسم الطفل حفص والطفلة حفصة. حفص، خرج من رحم جفت طويلاً، وبعد أن لفظته، جمح إلى الاستظلال بفضاء القرى الممتدة، ولم يكن يعلم أن هذه الرحم ستلفظه نحو الدروب البعيدة... يعرف تفاصيل كل القرى الهاربة بين الجبال وسفوحها أو المطلة على الأودية أو الذاهبة إلى البحر، يعرف تربة كل وادٍ، ويستنشق هواء كل نقطة على حدة، ويحدد سحنات ولهجات كل أهالي تهامة، ويعرف رجالها ونساءها وأوديتها وجبالها وأشجارها وطيورها وزواحفها وحيواناتها، جرى ولعب في جل تلك القرى البعيدة والقريبة: مصفوقة، والشانق، والسباخية، وجلاح، والراحة، والمزبرات، والخوجرة عشرات القرى وطأ تربتها واستنشق هواءها وعلى الشريط الحدودي وجد نفسه مرة في اليمن ومرة داخل بلاده، يسير منتصباً وقدماه لا تعرفان التوقف إلا حين يصل قرية المعرسة عندها يفقد البوصلة حيث يتحرك خط فاصل وهمي يمنح كل فرد انتماءً مستقلاً، يدهش للحظات وسرعان ما يمزج الجغرافيا ويلغي الحدود ككل أبناء تلك القرى القادرين على إذابة الفواصل التي لا تلحقها جملة مفيدة، وحفص يرى في قرية المعرسة توحيداً وتوحداً لوجوده. تعتب عليه أمه كلما غاب بين القرى وجاء متفقداً حفصة دون سواها، يقتعدان فناء البيت للتأكد مما أسرّا به لبعضهما عن بعد، ساردين كل الخواطر المتبادلة وقلما تخطئ مطابقتهما لما جرى في مخيّلة كل منهما، بدآ يستشعران إحساسهما ببعضهما وتواصلهما ذهنياً عن بعد، يتبادلان الخواطر والأفكار، وبعد أن استوثقا من حالتهما، أفصحا لأمهما عما يجدان، فأوصتهما مستحلفة كليهما بكتمان سرهما، وغرسته بين ضلوعها: – يكفيني ما ذقته من الشواني. في وادي خلب وقف حفص مراراً لرؤية جريان السيل الذي يجيء دائماً لإحياء الحقول الميتة، ويترك لغماً من المياه الآسنة تقطع أفئدة أهالي القرى حين ينشط البعوض في تلقيح الأجساد وإماتتها، وقد تخصّص جوف وادي العير بتزويد كل القرى بالحمّى. في سنة من سنوات طفولة حفص بقى لأيام مغموراً في مياه السيول يقارع كل الصبية أيّهم يراهنه على السباحة في المنطقة اللزبة، كسب كل رهاناته، إلا أنه خرج متلبساً حمّى سكنته لشهر كامل وسحبته إلى قاع غيبوبة يخرج منها هاذياً ولا يفيق إلا مطالباً أخته حفصة بتدفئته، غطي بكل ما في البيت من ألحفة، ولم تقف رجفته أو تخف حرارته. يئس ذووه من شفائه وفتحوا له شجاً في الأرض، بقي قبره مفتوحاً خمسة أيام، في آخرها مد أبوه يده من أجل تقبّل العزاء، فنهرته زوجته عوش خالدية مستحلفة إياه ببقاء أملها موصولاً بنقله إلى قرية المعرسة اليمنية، في البدء لم يجبها إلى طلبها، فروت له حلمها، وأكدته بما خطر بقلب حفصة، فأذعن لاسترحامها، وحمل حفصاً ميتاً إلى عرصة المعالج الحاج علي بن حسن الذي زهد من معالجة ذلك الطفل، ولم يمسسه، مكتفياً بترديد: – هذا (الجاهل) ميت. وانشغل بتطبيب المرضى القادمين من القرى المجاورة حين أمسكت به عوش خالدية مستجيرة: – يا حاج حسن، رأيتك في القبة الخضراء تناولني قرطاً ذهبياً. ارتج الحاج لما ذكرته من حلم، وردّ عليها: – وأنا رأيت هذا الحلم، أمريضك من بين المرضى؟ – هذا (الجاهل) الذي قلت إنه ميت. تخلى الحاج علي بن حسن عن بقية المرضى، ووقف على رأس حفص، فلمح زبداً يخرج من فمه، وارتعادة متواصلة تتركز في وسط البطن، فأشار لمرافقيه على حمله إلى داخل العريش، وخلص جسده الصغير من ثيابه، وبسطه على حصيرة وضنت بسعف الخوص، وأمر أن تراق عليه قرب الماء البارد، فانتفض، واصطكت أسنانه، وتعطف في تكوّر أدخل رأسه بين فخذيه، مرتعشاً ككتلة واحدة، ظنت أمه أنه يزفر روحه، فاستجارت بالحاج: – ابني يموت، افعل شيئاً. كان مشغولاً عنها بتقليب شفرته بين جمرات مستعرة، وتبادل النظرات مع معاونيه، وعندما هبّ واقفاً، سبقوه إلى جسد الصبي وأمسك كل منهم بطرف من أطرافه، وثبّتوه جيداً، رفع الحاج علي بن حسن شفرته التي استوى توهجها، وكوى أربعة مواضع: أسفل السرة، وأعلى عظمتي الترقوة من الجهة اليسرى، وفي الخاصرتين... مع الكيّة الأولى ارتفع صياح الصبي، وبعدها صمت تماماً، وتحوّل إلى جثة باردة، سارع مساعدو الحاج بتغطيته برماد ثمام محروق، وغطوه بأشجار الأراك الخضراء، وحملوه إلى سقف العريش. وأمر الحاج علي بن حسن والدي الصبي بالانصراف، أرادت أمه عوش مجادلته، فرفع يده في وجهها: – غيبي يومين ثم أقبلي. – وأترك ابني في هذا العراء؟ – ............ – ربما مات أو تخاطفته الحدآت والغربان... – ............ – يا غارة الله يا حاج علي! تركها الحاج تذرف كلماتها، وانقلب إلى بقية مرضاه يتفحصهم ويتفقد أحوالهم، فتحرّك زوجها عمر نحوها وجذبها مصبّراً ومحفزاً إياها على مغادرة الموقع. لم تطق الابتعاد، فلزمت ساحة العريش معلقة بصرها في طفلها المسجّى بكفن من رماد والمغطى بأشجار الأراك تلمحه في موضعه على سطح العريش فينهلع قلبها وجلاً، جذبتها ابنتها حفصة من طرف فستانها: – يطمنك حفص ويسألك بالكريم أن لا تكدري خاطرك. لم تبرح المكان، فتحرّك زوجها من أجل إيداع حفصة في بيت الحاج علي بن حسن كي تبات مع ابنته أنس وعاد إلى زوجته مواسياً ومصبّراً جزعها. مضى الليل منصتاً لأنّات المرضى المقذوفين في ساحة العريش، وأضواء الفوانيس تتلألأ في معركة ضارية بينها وبين ظلمة غامقة بسطت أطرافها على المكان بجبروت طاغية، وظلت انعكاسات أجساد مرافقي المرضى تخلق خيالات من أشباح تتشكل متحيّنة الفرصة من أجل الانقضاض على المكان. لم تنم عوش خالدية فكلما غلبها النعاس رأت ابنها يسقط من عل ويهوي إلى داخل قبر فتح فمه من أيام منتظراً إطلالة فلذة كبدها، فتفز من نعاسها، وتغسل وجهها، مجهدة بصرها في التحديق لرؤية أي حركة تطمئنها على أن ابنها ما زال في عالم الأحياء وهي تتمنى أن لا يطلع الصباح قبل أن ينزل ابنها من مكانه، خذل الليل أمنيتها وانسحب قبل تحقيقها. وقفت شمس الصباح على قمة جبل الدود، وانطلقت الحياة تدب في الكائنات، كانت أمنية عوش خالدية أن لا يأتي النهار لكي لا يرسل طيوره الباحثة عن غذائها. تحوم الغربان والحدآت وتهوي لالتقاط ما تبصره من بقايا أطعمة وتعاود الخفق بأجنحتها على علو منخفض، وكلما دنت من سطح العريش قذفتها عوش بالحجارة. سقوط حجارتها آذى المرضى ومرافقيهم، فنهرها أعوان الحاج علي بن حسن عن تصرفها ذاك، وأخرجوها من محيط العريش وهي تبكي وتستجير بالحاج. توقفت أدمعها في اليوم الثاني حين أُنزل ابنها، ورفعت أشجار الأراك عن جسده، فظهر مترمّداً، كأنه بعث من قبر رماد ولا أثر فيه لحياة، قبضت عوش على كتف زوجها: – مات حفص. وهمّت برفع نحيبها إلا أن حركة بدرت من طفلها جعلتها تتراجع، وتستحث الحاج: – ها... جلس الحاج علي يزيل الرماد عن وجه الصبي وعن بقية أعضائه بمنشفة بللت بماء فاتر، ويتحسّس وجنتيه بابتسامة متأرجحة، حتى إذا استأنس بانطفاء الكيّات في مواضعها، رفع رأس الصبي وجرعه سائلاً ثقيلاً يميل للصفار، وأتبعه بحليب فاح بخاره. تنهدات الصبي المتلاحقة جعلت الحاج ينهض مبشراً ذويه، وموجّهاً حديثه إلى عوش خالدية: – ولدك هذا مبخوت فقد نجا من موت محقق. عادت عوش خالدية من قرية المعرسة مصطحبة ابنها في زفة شارك في إحيائها أبناء القرى المجاورة وأطلقت الزغاريد والأعيرة النارية ابتهاجاً بسلامة حفص الذي عاد من الموت... وخرجت قرية الغاوية مستقبلة العائد في مراسيم بدأت بدفن القبر المفتوح والدوران بحفص حول بيتهم سبع مرات احتفاءً بتغيير اسمه من حفص إلى مبخوت. ولم يرضَ بتغيير اسمه ما لم يتطابق مع توأمه، ومن الصباح الباكر انتقل أبوهما إلى إدارة الأحوال المدنية بصامطة، ناقلاً اسم توأميه من الحفص إلى البخت. *** اختير شرق ملعب الصبان أن يكون موقفاً للسيارات المغادرة لليمن، وكذلك للمسافرين إلى الجنوب. كان موقفاً متواضعاً لا يستطيع المسافر التزوّد منه بأي شيء ذي قيمة. كل ما به مقهى ومكتب تسفير وباعة جائلين بما يحتاج إليه المسافر من مياه ومشروبات تنوعت بنهكات لم تصل إلى الإتقان. أنهى سائق الحافلة إجراءات السفر، ونادى بمن كان خارج الحافلة إلى الصعود استعداداً للمغادرة، واقتعد مقعده سائلاً معاونه أن يُحكم تثبيت العفش، وتحرك مطلقاً نفير بوق سيارته لإبعاد المتجمهرين عن مقدمة الحافلة؛ مخترقاً أحياء القريات وغليل والكرنتينة عابراً الخمرة وموجهاً حافلته على خط الساحل. تسقط الشمس في لجج ماء البحر، وسائق الحافلة يجاهد في الوصول إلى منطقة الطفية قبل هبوط الظلام. بقي له قليل من أشعة شمس لم تلحق بقرصها، فضغط على مكبس الوقود مردّداً: – من يلاحق الشمس يكن هارباً. أراد نثر حكمه على مسامع راكب جاوره في المقعد الأمامي، تلك الحكمة ذهبت هباءً، فالراكب المجاور خذله بإغماض عينيه والتمايل مع الاهتزازات المتولدة من حركة الحافلة، التفت إلى معاونه القابع في كرسيّه المحاذي لبوابة الخروج: – ما عندك راكب يحب السواليف، أخونا سلم... لم يتلق رداً، سحب قارورة ماء من درج أسفل عمود القيادة، وارتشف جرعات متتابعة، ماسحاً فمه بكم ثوبه، ورفع صوته مدندناً: – قولوا للغالي قولوله. وش هُولَه يبطي.. وش هُولَه؟! صوته الأجش غير المتناغم مع لحن الأغنية أوقف دندنته وانثنى برقبته إلى معاونه وهو لا يزال ممسكاً بابتسامته: – لن نصل إلى بغيتنا في الوقت المحدّد. ومع أنه لم يجد جواباً إلا أنه ظل منشرحاً متخيّراً دندنة يقارب فيها اللحن مع الكلمات فيما كانت الحافلة تسلك طريق الساحل بهمّة جعلته يسترخي خلف مقوده تاركاً للمسافرين متابعة اللوحات الإرشادية المشيرة للمسافة الباقية من الطريق الطويل المؤدي إلى مدينة جازان. أحس بيد تربّت كتفه: – يا معلم أنا أحب السواليف. عبده خال * 1962 ولد في جازان * 1980 تخرج من ثانوية قريش بجدة * 1982 عمل في الصحافة مع جريدة عكاظ * 1985 تخرج من جامعة الملك عبدالعزيز علوم سياسية * 2010 حاز على جائزة البوكر عن رواية ترمي بشرر * 1983 بدأت مشاركاته الأدبية في جمعية الثقافة والفنون مؤلفاته * 1984 حوار على بوابة الأرض – نادي جازان الأدبي * 1992 لاأحد – مركز الحضارة العربية بالقاهرة * 1993 ليس هناك مايبهج – مركز الحضارة العربية بالقاهرة * 1995 الموت يمر من هنا – المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت * 1994 حكايات المداد قصص للأطفال – نادي جدة الأدبي * 1998مدن تأكل العشب – دار الساقي بلندن * 1999من يغني في هذا الليل – دار الراوي بالدمام * 2002 الأيام لاتخبئ أحدا – دار الجمل بألمانيا * 2003الأوغاد يضحكون – دار نجيب الريس ببيروت * 2003 الطين (ذلك البعيد كان أنا) – دار الساقي بلندن * 2004 نباح- دار الجمل بألمانيا 2005 فسوق – دار الساقي بلندن * 2008 “ترمي بشرر” – دار الجمل بألمانيا * 2011 نباح 2012 لوعة الغاوية – دار الساقي بلندن عبده خال