عند الحديث عن "الجهاد الأفغاني" لا بد من الحديث عن "بيت الأنصار". ولكل من زار هذا البيت لا يمكن أن يخرج بدون ذكريات يستعيد من خلالها المشهد الفكري الذي كان يشتعل على نار هادئة لينتج أوار التطرف الديني الذي نعيشه اليوم. ولكوني وعدتُ القارئ الكريم، الأسبوع الماضي، بسرد توصيفي لواقع "الجهاد الأفغاني" في تلك الفترة، إذ إني ما زلت أحتفظ بذكريات مرتبطة منذ التسعينات بهذا الأمر. أتذكر أنه أثناء حرب الخليج ونتيجة التعبئة الشعبية العارمة تجاه التجنيد (الإعداد بالمصطلح الحركي الجهادي) فقد انطلق آلاف الشباب من السعودية إلى معسكرات أفغانستان للتدريب. وكنتُ واحدا من أولئك، حصلت على التسهيلات اللازمة من الجهات الداعمة للجهاد الأفغاني من تذاكر السفر وتأشيرة الدخول، عندها حزمت أمتعتي وحجزت مقعدي على الخطوط الباكستانية بصحبة أحد العارفين بالجهاد الأفغاني وبمجرد الوصول إلى كراتشي كان هناك من يقوم باستقبالك ومن ثم نقلك إلى "بيت الأنصار" في بيشاور لتقيم فيه بضعة أيام تلتقي بمجموعة من شباب العالم العربي المتنوع في مشاربه الفكرية، الذي كان يسيطر عليه في تلك الفترة تحديدا شباب مندفع نحو هاوية التطرف مهووس بالتكفير الذي يبدأ بالأنظمة العربية الحاكمة ولا ينتهي بالعلماء البارزين الذين لم تتوافق فتاواهم مع آراء أولئك الشباب المندفعين. تمكثُ في هذا البيت، "بيت الأنصار"، ثلاثة أيام تُشكل هذه الليالي فيه مؤشرا لمدى قابليتك لأفكار من هذا النوع القائم على تكفير الجميع، بمنهجية مدروسة بعناية، كانت تُقدم كتب تكفيرية بناء على انتماء الشخص للبلد القادم منه. فإذا كنتَ سعوديا فسوف تحصل على أهم كتابين في تلك الفترة "وعد كيسنجر" و"البروق الجلية..". وفي حال تفاعلك مع الكتاب الأخير تحديدا، فهناك مرحلة أخرى بانتظارك تميزك عن الآخرين. أما إذا لم تبد تجاوبا مع هذا الكتاب أو رفضته، فإنه سيتم دفعك إلى المرحلة الثانية وهي النقل إلى معسكر التدريب في أفغانستان لتنهي ما أتيت من أجله وتعود سريعا إلى ديارك. أذكرُ أني وقتها نقلتُ إلى المعسكر في غضون يومين، نتيجة جدال مع شاب جزائري حول كتاب "البروق الجلية..". كان ذلك الشاب هو الإمام في "دار الأنصار" لحلاوة تلاوته وجمال صوته الأخّاذ، الذي ما زلتُ إلى اليوم أسترجع ندواته في صلاة الفجر! تشكُلات الانقسام كانت بارزة وجلية بين قادة الجهاد الأفغاني قبل سقوط كابل وليس بعدها كما يتصور البعض! والاتهامات بالعمالة والخيانة كانت تكال بين أتباع التنظيمات الجهادية في تلك الفترة، لاسيما بين أتباع الحزب الإسلامي حكمتيار وأحمد شاه مسعود من جهة، وبين حكمتيار والشيخ جميل الرحمن في كُنر من جهة أخرى، وهي اتهامات تتراوح بين العمالة والضلال والنكوص عن راية الجهاد. كل هذه الصراعات كانت تدور والشباب العربي جزء منها دون أي محاولة للنأي به عن هذه الصراعات التي كان يدخل فيها بحماسة عالية. لقد كان هذا التجمع بمثابة اختطاف لشباب الصحوة في تلك الفترة إلى جماعات التكفير والغلو.