يمكننا ملاحظة العدوان جليا حال الاقتدار والغضب والأمن من ردود الأفعال، وحين الشعور بضعف الجهة المقابلة كما في تفاصيل حياتنا الزوجية والأسرية، وذلك حين يتفرعن الرجل على زوجته فيضربها ويهينها ويحقرها ويطردها، وحين يبطش الأب بأولاده الصغار دون رحمة أو شفقة، فيمعن في أذاهم وإذلالهم، إذ توفر طبيعة العلاقة والظروف الاجتماعية المساعدة للزوج والأب قدرا كبيرا من الضعف في الطرف الآخر وأمانا من ردود الفعل الناقمة. لقد رسم الله سبحانه بأوامره ونواهيه مكانة سيئة للمعتدين فأخرجهم من دائرة حبه وأبعدهم عنه بقوله {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}، ولنا أن نتصور العبد خارجا عن دائرة الحب الإلهي، أين سيكون؟ وأي سعادة سيجني؟ إنه دون ريب سينتقل من انتقام إلى آخر ومن ظلم إلى ظلم أشد، حتى يرى متعته الكاذبة في عذاب من حوله وأذاهم. قرأت أن تشرشل (من قادة الحرب العالمية الثانية) لا يقضي لحظاته الغرامية مع عشيقاته إلا بعد أن يسلمهن سوطا من السياط القوية التي تستخدم للبغال والخيول، ويطلب منهن (بعد أن يتجرد من ملابسه) جلده بكل ما أوتين من قوة، وهي الحالة التي يطلق عليها العلماء الماسوشية (التلذذ بتعذيب الذات) وقرأت كيف أن الساديين (التمتع بتعذيب الآخرين) لا يستمتعون جنسيا إلا بعد ضرب وتعذيب شريكتهم وسماع صراخها وألمها. كنت أقرأ ذلك وأنا بين مصدق ومكذب حتى تفاجأت بإحدى الزوجات تشكو لزوجتي بعد أن رزقها الله خمسة أولاد، فتقول إن زوجها قد عودها بعد أشهر من زواجهما أن لا يأتيها حتى يبصق في وجهها ويمطرها بسيل من الكلمات الجارحة التي تبكيها وتحزنها وتجعلها في وضع نفسي وجسدي غير مهيأ. يصعب علينا أن نصدق أن رجلا يترك عائلته بلا تسوق ولا أكل إلا الخبز وبعض الجبن، بينما يأكل هو في ديوانيات أصدقائه أطيب الأكل وألذه، ويستمر ذلك لأكثر من شهرين عقابا لهم لأنهم خرجوا من المنزل بدون إذنه، فاختار هذا الأسلوب لتأديبهم، ولم يُكتشف واقع الحال إلا حين وقعت ابنته في المدرسة، وعرف الأطباء أن سوء التغذية هو سبب ذلك. قصص كثيرة من ظلم الأزواج لا تنتهي ولا تتوقف، تبدأ بالإهانة والتجويع وقلة الإنفاق وتصل للتجريح والضرب والطرد دون شفقة أو رحمة حتى على المرأة التي لا والدين ولا أخوة لها. لقد صدمني أن يكون بيننا نحن الذين نصلي ونصوم ونقرأ القرآن من هم في هذا الدرك من الخسة والدناءة والقسوة، الذين يستمتعون ويأنسون بآلام الآخرين. الكثير من القصص الأسرية والاجتماعية تحرك في داخلي تساؤلات كثيرة قد تجعلني حائرا في تحصيل جوابها، كيف يمكن للمسالمة أن تكون بديلا عن العدوان في أوضاع الإنسان الطبيعية؟ وكيف يمكن أن تكون المسالمة هي قرار الإنسان الشجاع حين الغضب والانفعال، في شؤونه الأسرية الخاصة وشؤونه الاجتماعية العامة؟ كما جاء ذلك في تعاليم الدين وتوجيهاته (الشجاع من يملك نفسه عند الغضب)؟ وكيف نتعود أن نتحف من يعتدي علينا (من عوائلنا ومن مجتمعنا بل كل إنسان) بالإحسان وطيب الخاطر كبديل عن التشنج وردود الفعل العنيفة وغير المحسوبة. لقد اعتقدنا أن تعاليم ديننا وأخلاقياته ليست مؤهلة في زمان القوة والعنف ورد الصاع صاعين لتحقق لنا مكسبا ومكانة وقوة واحتراما، فتركنا (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)، وانسقنا مخدوعين وراء ثقافة العصر لنؤكد الأنا سواء كبرت هذه الأنا أم صغرت، فبدأنا نعزز رجولتنا في أسرنا ومجتمعنا بنظريات الرد والمجابهة، وهكذا وجدنا أسرا بكاملها تنهار، وصداقات اجتماعية تتصدع. الصورة أصبحت باهتة للكثير من القصص التي نقرؤها عن قادتنا وقدواتنا في تعاملهم وأخلاقهم وعفوهم وتجاوزهم، فاتجهنا نبحث عن صور وشخصيات أخرى نعتقدها أنسب لحياتنا وقوتنا ومكانتنا، لكننا لن نصل إلا إلى الخراب والدمار.+ [email protected]